الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فصرهن إليك ) أي : قطعهن ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وابن إسحاق ، وقال ابن عباس : هي بالنبطية . وقال أبو الأسود : هي بالسريانية ، وقال أبو عبيدة : قطعهن ، وأنشد للخنساء :


فلو يلاقي الذي لاقيته حضن لظلت الشم منه وهي تنصار



أي : تتقطع . وقال قتادة : فصلهن ، وعنه : مزقهن وفرقهن . وقال عطاء بن أبي رباح : اضممهن إليك . وقال ابن زيد : اجمعهن . وقال ابن عباس أيضا ، أوثقهن . وقال الضحاك : شققهن ، بالنبطية . وقال الكسائي : أملهن . وإذا كان : ( فصرهن ) بمعنى الإمالة فتتعلق ( إليك ) به ، وإذا كان بمعنى التقطيع تعلق بـ ( خذ ) .

وقرأ حمزة ، ويزيد ، وخلف ، ورويس ، بكسر الصاد ، وباقي السبعة بالضم ، وهما لغتان ، كما تقدم : صار يصور ويصير ، بمعنى أمال . وقرأ ابن عباس وقوم : ( فصرهن ) بتشديد الراء وضم الصاد وكسرها من صره يصره ويصره ، إذا جمعه ، نحو : ضره يضره ويضره ، وكونه مضاعفا متعديا جاء على يفعل بكسر العين قليل ، وعنه : ( فصرهن ) بفتح الصاد وتشديد الراء وكسرها من التصرية ، ورويت هذه القراءة عن عكرمة ، وعنه أيضا : ( فصرهن إليك ) بضم الصاد وتشديد الراء . وإذا تؤول ( فصرهن ) بمعنى القطع فلا حذف ، أو بمعنى الإمالة فالحذف ، وتقديره : وقطعهن واجعلهن أجزاء ، وعلى تفسير ( فصرهن ) بمعنى أملهن وضمهن إلى نفسك ، فإنما كان ذلك ليتأمل أشكالها وهيئاتها وحلاها ؛ لئلا يلتبس عليه بعد الإحياء ولا يتوهم أنها غير تلك .

( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ) العموم في كل جبل مخصص بوصف محذوف أي : يليك ، أو بحضرتك ، دون مراعاة عدد ، قاله مجاهد . وروي عن ابن عباس أنه أمر أن يجعل على كل ربع من أرباع الدنيا ، وهو بعيد ، وخصصت الجبال بعدد الأجزاء ، فقيل : أربعة ، قاله قتادة ، والربيع ، وقيل : سبعة ، قاله السدي ، وابن جريج ، وقيل : عشرة ، قاله أبو عبد الله الوزير المغربي ، وقال عنه في رجل أوصى بجزء من ماله : إنه العشر ، إذ كانت أشلاء الطيور عشرة .

والظاهر أنه أمر أن يجعل على كل جبل ثلاثة مما يشاهده بصره ، بحيث يرى الأجزاء ، وكيف تلتئم إذا دعا الطيور ، وقرأ الجمهور : ( جزءا ) بإسكان الزاي وبالهمز ، وضم أبو بكر : الزاي ، وقرأ أبو جعفر : ( جزا ) بحذف الهمزة وتشديد الزاي ، ووجهه أنه حين حذف ضعف الزاي ، كما يفعل في الوقف ، كقولك : هذا فرج ، ثم أجرى مجرى الوقف ، و ( اجعل ) ، هنا يحتمل أن تكون بمعنى : ألق ، فيتعدى لواحد ، ويتعلق على كل جبل باجعل ، ويحتمل أن يكون بمعنى : صير ، فيتعدى إلى اثنين ، ويكون الثاني على كل جبل ، فيتعلق بمحذوف .

( ثم ادعهن يأتينك سعيا ) أمره بدعائهن وهن أموات ، ليكون أعظم له في الآية ، ولتكون حياتها متسببة عن دعائه ، ولذلك رتب على دعائه إياهن إتيانهن إليه ، والسعي هو الإسراع في الشيء .

وقال الخليل : لا يقال : سعى الطائر ، يعني على سبيل المجاز ، فيقال : وترشيحه هنا هو أنه لما دعاهن فأتينه تنزلن منزلة العاقل الذي يوصف بالسعي ، وكان إتيانهن مسرعات في المشي أبلغ في الآية ، إذ إتيانهن إليه من الجبال يمشين مسرعات هو على خلاف المعهود لهن من الطيران ، وليظهر بذلك عظم الآية ، إذ أخبره أنهن يأتين على خلاف عادتهن من الطيران ، فكان كذلك ، وجعل سيرهن إليه سعيا ؛ إذ هو مشية المجد الراغب فيما يمشي إليه ؛ لإظهار جدها في قصد إبراهيم ، وإجابة دعوته .

وانتصاب ( سعيا ) على أنه مصدر في موضع الحال من ضمير الطيور ، أي : ساعيات ، وروي عن الخليل : أن المعنى يأتينك وأنت تسعى سعيا ، فعلى هذا يكون مصدر الفعل محذوفا ، هو في موضع الحال من الكاف ، وكان المعنى : يأتينك وأنت ساع إليهن ، أي : يكون منهن إتيان إليك ، ومنك سعي إليهن ، فتلتقي بهن . والوجه الأول أظهر ، وقيل : انتصب [ ص: 301 ] ( سعيا ) على أنه مصدر مؤكد ؛ لأن السعي والإتيان متقاربان . وروي في قصص الآية أن إبراهيم أخذ هذه الطيور وذكاها وقطعها قطعا صغارا ، وجمع ذلك مع الدم والريش ، وجعل من ذلك المجموع المختلط جزءا على كل جبل ، ووقف هو من حيث يرى الأجزاء ، وأمسك رءوس الطير في يده ثم قال : تعالين بإذن الله فتطايرت تلك الأجزاء ، وصار الدم إلى الدم ، والريش إلى الريش ، حتى التأمت كما كانت أولا ، بقيت بلا رءوس ، ثم كرر النداء فجاءته سعيا حتى وضعت أجسادها في رءوسها ، وطارت بإذن الله .

وزاد النحاس : أن إبراهيم كان إذا أشار إلى واحد منها بغير رأسه تباعد الطائر ، وإذا أشار إليه برأسه قرب منه حتى لقي كل طائر رأسه . وقال أبو عبد الله : ذبحهن ونحز أجزاءهن في المنحاز - يعني الهاون - إلا رءوسهن ، وجعل ذلك المختلط عشرة أجزاء على عشرة جبال ، ثم جعل مناقيرهن بين أصابعه ، ثم دعاهن فأتين سعيا يتطاير اللحم إلى اللحم ، والريش إلى الريش ، والجلد إلى الجلد ، بقدرة الله تعالى .

وأجمع أهل التفسير أن إبراهيم قطع أعضاءها ولحومها وريشها وخلط بعضها ببعض مع دمائها ، وأنكر ذلك أبو مسلم ، وقال : لما طلب إبراهيم إحياء الميت من الله ، أراه مثالا قرب به الأمر عليه ، والمراد بـ ( فصرهن إليك ) أملهن ، ومر بهن على الإجـابة بحيث يصرن إذا دعوتهن أجبنك ، فإذا صرن كذلك فاجعل على كل جبل منهن واحدا منها حال حياته ، ثم ادعهن يأتينك سعيا ، والغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة ، وأنكر القول بالتقطيع ، قال : لأن المشهور في اللغة في ( فصرهن ) أملهن وأما التقطيع والذبح ، فليس في اللفظ ما يدل عليه ، وبأنه لو كان المعنى : قطعهن ، لم يقل : إليك ، وتعليقه بخذ خلاف الظاهر ، وبأن الضمير في ( ثم ادعهن ) وفي يأتينك عائد إليها لا إلى الأجزاء وعوده على الأجزاء المتفرقة خلاف الظاهر ، ولا دليل فيما ذكر ، واحتج الأول بإجماع المفسرين الذين كانوا قبل أبي مسلم على التقطيع ، وبأن ما ذكره غير مختص بإبراهيم ، فلا مزية له ، وبأنه سأله أن يريه كيف يحيي الموتى ، ولا إراءة فيما ذكره أبو مسلم .

واحتج للقول الأول بإجماع المفسرين الذين كانوا قبل ذلك ، والظاهر أنه أجيب بأن ظاهر : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ) يدل على أن تلك الطيور جعلت جزءا جزءا ؛ لأن الواحد منها سمي جزءا ، وجعل كل واحد على جبل .

( واعلم أن الله عزيز حكيم ) ( عزيز ) لا يمتنع عليه ما يريد ، ( حكيم ) فيما يريد ويمثل ، والعزة تتضمن القدرة ؛ لأن الغلبة تكون عن العزة ، وقيل : ( عزيز ) منتقم ممن ينكر بعث الأموات ، حكيم في نشر العظام الرفات .

وقد تضمنت هذه القصص الثلاث ، من فصيح المحاورة بذكر ( قال ) سؤالا وجوابا ، وغير ذلك من غير عطف ؛ إذ لا يحتاج إلى التشريك بالحرف إلا إذا كان الكلام بحيث لو لم يشرك لم يستقل ، فيؤتى بحرف التشريك ليدل على معناه ، أما إذا كان المعنى يدل على ذلك ، فالأحسن ترك الحرف إذا كان أخذ بعضه بعنق بعض ، ومرتب بعضه من حيث المعنى على بعض ، وقد أشرنا إلى شيء من هذا في قوله : ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) ومما جاء ذلك فيه كثيرا محاورة موسى وفرعون في سورة الشعراء وسيأتي تفسير ذلك إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية