الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ) لما أخبرتها الملائكة أن الله بشرها بالمسيح ، نادت ربها ، وهو الله ، مستفهمة على طريق التعجب من حدوث الولد من غير أب ; إذ ذاك من الأمور الموجبة للتعجب ، وهذه القضية أعجب من قضية زكريا ، لأن قضية زكريا حدث منها الولد بين رجل وامرأة ، وهنا حدث من امرأة بغير واسطة بشر ، ولذلك قالت : ( ولم يمسسني بشر ) .

وقيل : استفهمت عن الكيفية ، كما سأل زكريا عن الكيفية ، تقديره : هل يكون ذلك على جري العادة بتقدم وطء ؟ أم بأمر من قدرة الله ؟ . وقال الأنباري : لما خاطبها جبريل ظنته آدميا يريد بها سوءا ، ولهذا قالت : ( أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا ) فلما بشرها لم تتيقن صحة قوله ; لأنها لم تعلم أنه ملك ، فقالت : ( رب أنى يكون لي ولد ) ؟

ومن ذهب إلى أن قولها : رب ، وقول زكريا : رب ، إنما هو نداء لجبريل لما بشرهما ، ومعناه : يا سيدي فقد أبعد . وقال الزمخشري : هو من بدع التفاسير ، ويكون : يحتمل أن تكون الناقصة والتامة ، كما سبق في قصة زكريا . ولم يمسسني بشر : جملة حالية ، والمسيس هنا كناية عن الوطء ، وهذا نفي عام أن يكون باشرها أحد بأي نوع كان من تزوج أو غيره ، والبشر : يطلق على الواحد والجمع ، والمراد هنا النفي العام ، وسمي بشرا لظهور بشرته وهو جلده ، وبشرت الأديم قشرت وجهه ، وأبشرت الأرض أخرجت نباتها ، وتباشير الصبح أول ما يبدو من نوره .

( قال كذلك الله يخلق ما يشاء ) تقدم الكلام في نظيرها في قصة زكريا ، إلا أن في قصته ( يفعل ما يشاء ) من حيث إن أمر زكريا داخل في الإمكان العادي الذي يتعارف ، وإن قل ، وفي قصة مريم : يخلق ، لأنه لا يتعارف مثله ، وهو وجود ولد من غير والد ، فهو إيجاد واختراع من غير سبب عادي ، فلذلك جاء بلفظ : يخلق ، الدال على هذا المعنى . وقد ألغز بعض العرب المستشهد بكلامها فقال :

[ ص: 463 ]

ألا رب مولود وليس له أب وذي ولد لم يلده أبوان



يريد : عيسى و آدم . ( إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) تقدم الكلام على هذه الجملة في البقرة : لغة ، وتفسيرا ، وقراءة ، وإعرابا ، فأغنى ذلك عن إعادته .

( ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ) الكتاب هنا مصدر ، أي : يعلمه الخط باليد ، قاله ابن عباس ، وابن جريج وجماعة . وقيل : الكتاب هو كتاب غير معلوم ، علمه الله عيسى مع التوراة والإنجيل ، وقيل : كتب الله المنزلة . والألف واللام للجنس . وقيل : هو التوراة والإنجيل . قالوا : وتكون الواو في : والتوراة ، مقحمة ، والكتاب عبارة عن المكتوب ، وتعليمه إياها ، قيل : بالإلهام ، وقيل : بالوحي ، وقيل : بالتوفيق والهداية للتعلم . والحكمة تقدم تفسيرها ، وفسرت هنا بسنن الأنبياء ، وبما شرعه من الدين ، وبالنبوة ، وبالصواب في القول والعمل ، وبالعقل ، وبأنواع العلم ، وبمجموع ما تقدم أقوال سبعة .

روي أن عيسى كان يستظهر التوراة ، ويقال : لم يحفظها عن ظهر قلب غير موسى ، و يوشع ، وعزير ، و عيسى . وذكر الإنجيل لمريم وهو لم ينزل بعد ، لا كان كتابا مذكورا عند الأنبياء والعلماء ، وأنه سينزل .

وقرأ نافع ، وعاصم ، ويعقوب ، وسهل : ويعلمه ، بالياء ، وقرأ الباقون : بالنون ، وعلى كلتا القراءتين هو معطوف على الجملة المقولة ، وذلك أن قوله : قال كذلك ، الضمير في : قال ، عائد على الرب ، والجملة بعده هي المقولة ، وسواء كان لفظ الله مبتدأ ، وخبره فيما قبله لزم مبتدأ وخبره يخلق على ما مر إعرابه في : ( قال كذلك الله يفعل ما يشاء ) فيكون هذا من المقول لمريم ، أم على سبيل الاغتباط والتبشير بهذا الولد الذي يوجده الله منها ، ويجوز أن يكون معطوفا على : يخلق ، سواء كانت خبرا عن الله أم تفسيرا لما قبلها ، إذا أعربت لفظ " الله " مبتدأ ، وما قبله الخبر ، وهذا ظاهر كله على قراءة الياء .

وأما على قراءة النون ، فيكون من باب الالتفات ، خرج من ضمير الغيبة إلى ضمير التكلم لما في ذلك من الفخامة . وقال أبو علي : وجوزه الزمخشري ، وغيره عطف : ويعلمه ، على : يبشرك ، وهذا بعيد جدا لطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه . وأجاز ابن عطية ، وغيره أن يكون معطوفا على : ويكلم ، وأجاز الزمخشري أن يكون معطوفا على : وجيها ، فيكون على هذين القولين في موضع نصب على الحال . وفيما أجازه أبو علي ، والزمخشري في موضع رفع ; لأنه معطوف على خبر " إن " ، وهذان القولان بعيدان أيضا ; لطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه ، ولا يقع مثله في لسان العرب .

وقال بعضهم : ونعلمه ؛ بالنون ؛ حمله على قوله ( نوحيه إليك ) فإن عني بالحمل العطف فلا شيء أبعد من هذا التقدير ، وإن عني بالحمل أنه من باب الالتفات فهو صحيح ، وقال الزمخشري : أو هو كلام مبتدأ ؛ يعني قوله : ونعلمه ، وذلك أنه أجاز أن يكون معطوفا على يبشرك ، وعلى " وجيها " ، وعلى " يخلق " ، ثم قال أو هو كلام مبتدأ يعني : أنه لا يكون معطوفا على شيء من هذه التي ذكرت ، فإن عني أنه استئناف إخبار عن الله ، أو من الله ، على اختلاف القراءتين ، فمن حيث ثبوت الواو لا بد أن يكون معطوفا على شيء قبله ، فلا يكون ابتداء كلام إلا أن يدعي زيادة الواو في : ويعلمه ، فحينئذ يصح أن يكون ابتداء كلام ، وإن عني أنه ليس معطوفا على ما ذكر ، فكان ينبغي أن يبين ما عطف عليه ، وأن يكون الذي عطف عليه ابتداء كلام حتى يكون المعطوف كذلك . وقال الطبري : قراءة الياء عطف على قوله ( يخلق ما يشاء ) وقراءة النون عطف على قوله ( نوحيه إليك ) قال ابن عطية : وهذا القول الذي [ ص: 464 ] قاله في الوجهين مفسد للمعنى ، انتهى . ولم يبين ابن عطية جهة إفساد المعنى ، أما قراءة النون فظاهر فساد عطفه على : نوحيه ، من حيث اللفظ ، ومن حيث المعنى ، أما من حيث اللفظ فمثله لا يقع في لسان العرب لبعد الفصل المفرط ، وتعقيد التركيب ، وتنافر الكلام . وأما من حيث المعنى ، فإن المعطوف بالواو شريك المعطوف عليه ، فيصير المعنى بقوله ذلك من أنباء الغيب أي : إخبارك يا محمد بقصة امرأة عمران ، وولادتها لمريم ، وكفالة زكريا ، وقصته في ولادة يحيى له ، وتبشير الملائكة لمريم بالاصطفاء والتطهير ، كل ذلك من أخبار الغيب ، نعلمه ، أي : نعلم عيسى الكتاب ، فهذا كلام لا ينتظم معناه مع معنى ما قبله . وأما قراءة الياء ، وعطف : ويعلمه ، على : يخلق ، فليست مفسدة للمعنى ، بل هو أولى ، وأصح ما يحمل عليه عطف : ويعلمه ، لقرب لفظه ، وصحة معناه . وقد ذكرنا جوازه قبل ، ويكون الله قد أخبر مريم بأنه تعالى يخلق الأشياء الغريبة التي لم تجر بها عادة ، مثل ما خلق لك ولدا من غير أب ، وأنه تعالى يعلم هذا الولد الذي يخلقه لك ما لم يعلمه قبله من الكتاب ، والحكمة ، والتوراة والإنجيل ، فيكون في هذا الإخبار أعظم تبشير لها بهذا الولد ، وإظهار بركته ، وأنه ليس مشبها أولاد الناس من بني إسرائيل ، بل هو مخالف لهم في أصل النشأة ، وفيما يعلمه تعالى من العلم ، وهذا يظهر لي أنه أحسن ما يحمل عليه عطف : ويعلمه .

التالي السابق


الخدمات العلمية