الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فشرف العقل ما يدرك بالضرورة وإنما القصد أن نورد ما وردت به الأخبار والآيات في ذكر شرفه وقد سماه الله نورا في قوله تعالى : الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة وسمى ، العلم المستفاد منه روحا ووحيا وحياة فقال تعالى : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا وقال سبحانه : أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس وحيث ذكر النور والظلمة أراد به العلم والجهل كقوله يخرجهم من الظلمات إلى النور .

وقال صلى الله عليه وسلم يا : أيها الناس اعقلوا عن ربكم وتواصوا بالعقل تعرفوا ما أمرتم به ، وما نهيتم عنه واعلموا أنه ينجدكم عند ربكم واعلموا أن العاقل من أطاع الله ، وإن كان دميم المنظر حقير الخطر دنيء المنزلة رث الهيئة وأن الجاهل من عصى الله تعالى وإن كان جميل المنظر عظيم الخطر شريف المنزلة حسن الهيئة فصيحا نطوقا فالقردة والخنازير أعقل عند الله تعالى ممن عصاه ولا تغتر بتعظيم أهل الدنيا إياهم فإنهم من الخاسرين .

التالي السابق


(وشرف العقل) وجلالته (مدرك بالضرورة) فلا يحتاج إلى التطويل في جلب الكلام فيه من هنا ومن هنا (وإنما المقصد أن نورد ما وردت به الأخبار) الصحيحة، (والآيات) الصريحة (في ذكر شرفه وقد سماه الله تعالى نورا في قوله: الله نور السماوات والأرض ، وإنما سمي بذلك لنورانيته) ، وهذا قد ذكره الراغب في كتابيه الذريعة والمفردات ونصه في الذريعة وإلى العقل، أشار بقوله تعالى: الله نور السماوات والأرض أي منورهما والنور هو العقل، ونقله في المفردات عن ابن عرفة.

وقال الشيخ نجم الدين دايه: وقد سماه الله تعالى في القرآن نورا في قوله: قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ، فالنور محمد صلى الله عليه وسلم اهـ .

ونقل الراغب في أول الذريعة ما نصه: جعل المصباح مثلا للعقل والمشكاة مثلا لصدر المؤمن والزجاجة لقلبه والشجرة المباركة، وهي الزيتونة الدين وجلها لا شرقية ولا غربية تنبها على أنها مصونة عن التفريط والإفراط والزيت القرآن، وبين أن القرآن يمد العقل مد الزيت المصباح، وأنه يكاد يكفي لوضوحه وإن لم يعاضده العقل، ثم قال: نور على نور ، أي نور القرآن ونور العقل، وبين أنه يخص بذلك من يشاء اهـ .

واعلم أن الإنسان لم يتميز عن الحيوان والبهائم إلا بالعقل ولم يشرف إلا بالعلم، ومن شرف العلم أن كل حياة انفكت عنه فهي غير معتد بها بل ليست في حكم الموجودة فإن الحياة الحيوانية لا تحصل ما لم يقارنها الإحساس فيلتذ بما يوافقه، ويطلبه ويتألم مما يخالفه فيهرب منه، وذلك أحسن المعارف، فلأجل أن الحياة تقارب العلم (سمى) الله تعالى (العلم المستفاد منه) أي من العقل روحا لأنه يحيا به الناس الحياة الأخروية، ولما كان مقتضى الحياة الإنسانية إنها إذا تعرت من المعارف المختصة بها أن لا يعتد بها لهذا سمى الله ذلك العلم المستفاد (حياة فقال تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا ومن هنا سمى القرآن أيضا روحا; لكونه أساس العلوم كلها يحصل بها الحياة ويتسبب إلى الحياة الأخروية المشار لها بقوله تعالى: وإن الدار الآخرة لهي الحيوان ، وكذلك فسر قوله تعالى: كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه والضمير عائد إلى الله تعالى على أحد الوجوه، أو عائد إلى الإيمان أي قواهم بعلم الإيمان فعلم الإيمان هو روحه، [ ص: 452 ] (وقال تعالى: أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس ) فقد سمى من لم يكن له روح القلب ميتا، وكذلك قوله تعالى: إنك لا تسمع الموتى ، (وحيث ذكر النور والظلمة أراد به) أي بالنور (العلم) وبالظلمة (الجهل) أو أراد بهما الإيمان والشرك، وأصل الظلمة عدم النور، وهما متقابلان وهما من أحسن الاستعارات لهذين الضدين (كقوله) تعالى: الله ولي الذين آمنوا (يخرجهم من الظلمات إلى النور) وقد يعبر بالظلمة عن الفسق أيضا كما يعبر عن أضداد هؤلاء الثلاثة أعني الشرك والجهل والفسق بالنور، (وقد قال صلى الله عليه وسلم: أيها الناس اعقلوا عن ربكم) أي اعلموه وافهموه منه، يقال: عقلت عنه كذا (وتواصوا بالعقل) أي بكماله (تعرفوا به ما أمرتم به، وما نهيتم عنه واعلموا أنه) أي العقل (مجدكم عند ربكم) ، هكذا في نسخة العراقي، وفي بعضها ينجدكم عند ربكم، (واعلموا أن العاقل من أطاع الله، وإن كان دميم) بالدال المهملة أي قبيح (المنظر) بالنسبة إلى ما يظهر منه، (حقير الخطر) أي القدر والقيمة (دنيء المنزلة) أي خسيسها (رث الهيئة) بالنسبة إلى ملبوسه، وما يلحقه من العناء والمشقة، فيحصل له بذلك التشعيث، (وإن الجاهل) أورده في مقابلة العاقل; لأن العلم والعقل يتواردان موردا واحدا، كما أشرنا إليه آنفا (من عصى الله وإن كان جميل المنظر عظيم الخطر شريف المنزلة حسن الهيئة) وهذه الأربعة أوصاف في مقابلة أربعة أوصاف، وإن أول ما يروع الإنسان جمال منظره، فإذا عظم مع ذلك خطره فهي مرتبة علياء، وبها تكون منزلته شريفة وهيئته حسنة .

ثم زاد في أوصافه وصفين، فقال: (فصيحا نطوقا) فما أقبح بالمرء أن يكون حبس جسمه باعتبار قبح نفسه جنة يعمرها يوم وحرمة يحرسها ذئب كما قال حكيم لجاهل صبيح الوجه، أما البيت فحسن، وأما ساكنه فرديء وما أقبح به أن يكون اعتباره بكثرة ماله وحسن أثاثه، فقد سمى بعض الحكماء الأغنياء تيوسا صوفها درر وحمر إجلالها حبر (والقردة والخنازير أعقل عند الله ممن عصاه) ، إذ قبيح بذي العقل أن يكون بهيمة وقد أمكنه أن يكون إنسانا أو إنسانا وقد أمكنه أن يكون ملكا :


فلم نر في عيوب الناس نقصا كنقص القادرين على التمام

(ولا تفتروا بتعظيم أهل الدنيا إياكم فإنهم من الخاسرين) قال العراقي: رويناه في كتاب العقل لداود بن المحبر من رواية أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: فذكره، إلا أنه قال: فإنهم عدوا من الخاسرين، ورواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن داود بن المحبر، وداود بن المحبر اختلف فيه، فروى عباس الدوري عن يحيى بن معين، أنه قال: ما زال معروفا بالحديث، ثم تركه، وصحب قوما من المعتزلة، فأفسدوه وهو ثقة، وقال أبو داود: ثقة شبه الضعيف، وقال أحمد: لا يدري ما الحديث، وقال الدارقطني: متروك، وروى عبد الغني بن سعيد الأزدي المصري عن الدارقطني، قال: كتاب العقل وضعه أربعة أولهم ميسرة بن عبد ربه، ثم سرقه منه داود بن المحبر فركبه بأسانيد غير أسانيد ميسرة وسرقه عبد العزيز بن أبي رجاء فركبه بأسانيد أخر، ثم سرقه سليمان بن عيسى السنجري فأتى بأسانيد أخر وكما قال: وعلى ما ذكره الدارقطني فقد سرقه عن داود عبد العزيز بن أبي رجاء فاختصره وجعل له إسنادا آخر فرواه عن مالك عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ابن آدم أطع ربك تسمى عاقلا ولا تعصه تسمى جاهلا" رواه أبو نعيم في الحلية، والخطيب في أسماء من روى عن مالك من رواية ابن أبي رجاء المذكور .

وقال الخطيب: منكر من حديث مالك، وقال الدارقطني: عبد العزيز بن أبي رجاء متروك، وقال الذهبي في الميزان: هذا باطل على مالك اهـ .

قلت: داود بن المحبر بن مخرم البكراوي: يكنى أبا سليمان البصري نزيل بغداد مات سنة ست ومائتين، والمحبر كمحدث روى أبوه عن هشام بن عروة، وروى ابنه داود عن شعبة وهمام وجماعة وعن مقاتل بن سليمان، وعنه أبو أمية والحارث بن أبي أسامة وجماعة، وأورده الذهبي في الميزان من طريقه حديثا في فضل قزوين، أخرجه ابن ماجه في سننه، ثم قال: فلقد شان ابن ماجه سننه بإدخاله هذا الحديث الموضوع فيها اهـ .

وكل من ميسرة وابن أبي رجاء وسليمان بن عيسى متروكون .




الخدمات العلمية