الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 84 ] واحتج الجبرية بما ذكره الرازي وغيره بقولهم: إذا أراد الله تحريك جسم وأراد العبد تسكينه: فإما أن يمتنعا معا، وهو محال؛ لأن المانع من وقوع مراد كل واحد منهما هو وجود مراد الآخر، فلو امتنعا معا لوجدا معا، وهو محال، أو لوقعا معا، وهو محال، أو يقع أحدهما وهو باطل، لأن القدرتين متساويتان في الاستقلال بالتأثير في ذلك المقدور الواحد، والشيء الواحد حقيقته لا تقبل التفاوت، فإذن القدرتان بالنسبة إلى اقتضاء وجود ذلك المقدور على السوية، وإنما التفاوت في أمور خارجية عن هذا المعنى، وإذا كان كذلك امتنع الترجيح.

فيقال: هذه الحجة باطلة على المذهبين.

أما أهل السنة فعندهم يمتنع أن يريد الله تحريك جسم، ويجعل العبد مريدا لأن يجعله ساكنا مع قدرته على ذلك، فإن الإرادة الجازمة مع القدرة تستلزم [ ص: 85 ] وجود المقدور، فلو جعله الرب مريدا مع قدرته لزم وجود مقدوره، فيكون العبد يشاء ما لا يشاء الله وجوده، وهذا ممتنع، بل ما شاء الله وجوده يجعل القادر عليه مريدا لوجوده، لا يجعله مريدا لما يناقض مراد الرب.

وأما على قول المعتزلة فعندهم تمتنع قدرة الرب على عين مقدور العبد، فيمتنع اختلاف الإرادتين في شيء واحد، وكلتا الحجتين باطلة؛ فإنهما مبنيتان على تناقض الإرادتين، وهذا ممتنع، فإن العبد إذا شاء أن يكون شيء لم يشأه حتى يشاء الله مشيئته كما قال تعالى: لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين [التكوير: 28-29] ، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فإذا شاءه الله جعل العبد شائيا له، وإذا جعل العبد كارها له غير مريد له، لم يكن هو في هذه الحال شائيا له.

فهم بنوا الدليل على تقدير مشيئة الله له، وكراهة العبد له، وهذا تقدير ممتنع، وهذا نقلوه من تقدير ربين وإلهين، وهو قياس باطل، لأن العبد مخلوق لله هو وجميع مفعولاته، ليس هو مثلا لله ولا ندا، ولهذا إذا قيل ما قاله أبو إسحاق الإسفراييني: من أن فعل العبد مقدور بين قادرين، لم يرد به بين قادرين [ ص: 86 ] مستقلين، بل قدرة العبد مخلوقة لله، وإرادته مخلوقة لله، فالله قادر مستقل، والعبد قادر بجعل الله له قادرا، وهو خالقه وخالق قدرته وإرادته وفعله، فلم يكن هذا نظير ذاك.

وكذلك ما يقدره الرازي وغيره في مسألة إمكان دوام الفاعلية، وأن إمكان الحوادث لا بداية له، من أنا إذا قدرنا إمكان حادث معين، وقدرنا أنه لم يزل ممكنا، كان هذا لم يزل ممكنا مع أنه لا بداية لإمكانه، فإن هذا تقدير ممتنع، وهو تقدير ما له بداية مع أنه لا بداية له، وهو جمع بين النقيضين، ولهذا منع الرازي في «محصله» إمكان هذا.

التالي السابق


الخدمات العلمية