الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم ليراع الزوج في الطلاق أربعة أمور :

الأول : أن يطلقها في طهر ، لم يجامعها فيه فإن الطلاق في الحيض ، أو الطهر الذي جامع يدعى ، حرام ، وإن كان واقعا لما فيه من تطويل العدة عليها فإن فعل ذلك فليراجعها طلق ابن عمر زوجته في الحيض فقال صلى الله عليه وسلم لعمر : مره فليراجعها حتى تطهر ، ثم تحيض ثم تطهر ثم ، إن شاء طلقها ، وإن شاء أمسكها فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء .

وإنما أمره بالصبر بعد الرجعة طهرين ; لئلا يكون مقصود الرجعة الطلاق فقط .

التالي السابق


(ثم ليراع الزوج في الطلاق أربعة أمور: الأول: أن يطلقها) بعد الدخول بها، حالة كونها (في طهر، لم يجامعها فيه) أي: في ذلك الطهر، ولا في حيض قبله (فإن الطلاق في الحيض، أو الطهر الذي جامع فيه، بدعي حرام، وإن كان واقعا) وتحرم عليه المرأة، ولا تحل له إلا بعد زوج; (لما فيه من تطويل العدة عليها) فتتضرر بذلك، وقد ورد في الخبر: لا ضرر ولا ضرار، وقال تعالى: ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن (فإن فعل ذلك فليراجعها) والدليل على ذلك: ما ذكره بقوله: (طلق ابن عمر) رضي الله عنهما (امرأته) وهي: آمنة بنت غفار، وفي مسند أحمد أن اسمها النوار، قال الحافظ في الفتح: ويمكن أن يكون اسمها آمنة، ولقبها النوار (في الحيض) أي: وهي حائض، فسأل عمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، عن حكم طلاق ابنه، على الصفة المذكورة، وفي رواية: أن ابن عمر أخبره، فتغيظ فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعمر: مره) أي: مر ولدك عبد الله، وأصله: اأمر، بهمزتين، الأولى للوصل مضمومة تبعا [ ص: 394 ] للعين، والثانية فاء الكلمة، ساكنة، تبدل تخفيفا، من جنس حركة سابقها، فتقول: أومر، فإذا وصل الفعل بما قبله، زالت همزة الوصل، وسكنت الهمزة الأصلية، كما في قوله تعالى: وأمر أهلك بالصلاة لكن استعملتها العرب بلا همز، فقالوا: مر; لكثرة الدوران; ولأنهم حذفوا أولا الهمزة الثانية تخفيفا، ثم خففوا همزة الوصل، استغناء عنها; لتحرك ما بعدها (فليراجعها) والأمر: للندب عند الشافعية، والحنفية، والحنابلة، وقال المالكية، وصححه صاحب الهداية، من الحنفية: للوجوب، ويجبر على مراجعتها، ما بقي من العدة شيء، قال ابن القاسم، وأشهب، وابن المواز: يجبر عندنا بالضرب، والسجن، والتهديد، اهـ .

ودليل الجماعة، قوله: تعالى: فإمساك بمعروف وغيرها من الآيات، المقتضية للتخيير بين الإمساك بالرجعة، أو الفراق بتركها، فجمع بين الآيات والحديث، بحمل الأمر على الندب; ولأن المراجعة لاستدراك النكاح، وهو غير واجب في الابتداء. قال إمام الحرمين: ومع استحباب الرجعة، لا نقول إن تركها مكروه، لكن قال في الروضة: فيه نظر، وينبغي كراهته; لصحة الخبر فيه; ولدفع الإيذاء. ويسقط الاستحباب بدخول الطهر الثاني .

وقال الشيخ تقي الدين في شرح العمدة: ويتعلق بالحديث مسألة أصولية، وهي: الأمر بالأمر بالشيء، هل هو أمر بذلك الشيء أم لا؟ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعمر، مره بأمر، وأطال الحافظ البحث في هذه المسألة، والحاصل: أن الخطاب إذا توجه لمكلف، أن يأمر مكلفا آخر، بفعل شيء، كان المكلف الأول، مبلغا محضا، والثاني، مأمور من الشارع، كما هنا، وإن توجه من الشارع لمكلف، أن يأمر غير مكلف، كحديث: مروا أولادكم بالصلاة لسبع، لم يكن الأمر بالأمر بالشيء، أمرا بالشيء; لأن الأولاد غير مكلفين، فلا يتجه عليهم الوجوب، وإذا توجه الخطاب من غير الشارع، بأمر من عليه الأمر، أن يأمر من لا أمر للأول عليه، لم يكن الأمر بالأمر بالشيء، أمرا بالشيء أيضا، بل هو متعد بأمره للأول أن يأمر الثاني، والله أعلم .

(حتى تطهر، ثم تحيض) حيضة أخرى (ثم تطهر، إن شاء طلقها، وإن شاء أمسكها) قبل أن يجامعها (فتلك العدة) أي: فتلك زمن العدة، وهي حالة الطهر (التي أمر الله) أي: أذن (أن يطلق لها النساء) في قوله تعالى: فطلقوهن لعدتهن وفي قراءة ابن عباس، وابن عمر، بيان ذلك: فطلقوهن لقبل عدتهن، وفيه دليل على أن: الأقراء هي الأطهار، كما ذهب إليه مالك، والشافعي، واختاره صاحب القوت، حيث قال: وكذلك هو عندي، وإن تكافأ ذلك في اللغة، وتساوى في المعاني، بأن يكون الحيض أيضا (وإنما أمره بالصبر بعد الرجعة طهرين; لئلا يكون مقصود الرجعة الطلاق فقط) أشار بهذه الجملة إلى بيان علية الغاية المذكورة في الحديث، وقد اختلف العلماء فيه، فقيل: لئلا تصير الرجعة لمجرد غرض الطلاق لو طلق في أول الطهر، بخلاف الطهر الثاني، وكما ينهى عن النكاح بمجرد الطلاق، ينهى عن الرجعة له، ولا يستحب الوطء في الطهر الأول، اكتفاء بإمكان التمتع، وقيل: عقوبة، وتغليظ، وعورض: بأن ابن عمر لم يكن يعلم تحريمه، وأجيب: بأن تغيظه -صلى الله عليه وسلم- دون أن يعذره، يقتضي أن ذلك في الظهور لا يكاد يخفى على أحد .

واختلف في جواز تطليقها في الطهر الذي يلي الحيضة، التي وقع فيها الطلاق، والرجعة: فقطع المتولي بالمنع، وذكر الطحاوي: أنه يطلقها في الطهر الذي يلي الحيضة. قال الكرخي: وهو قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف، ومحمد، في طهر ثان، أي: إذا طهرت من تلك الحيضة التي وقع فيها الطلاق قال العراقي: الحديث متفق عليه. قلت: رواه البخاري ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وهذا لفظ البخاري، في كتاب الطلاق: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثني مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، رضي عنهما: أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فسأل عمر بن الخطاب، رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: مره فليراجعها، ثم يمسكها، حتى تطهر، ثم تحيض، ثم إن شاء أمسكها، وإن شاء طلقها قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء. وفي رواية محمد بن عبد الرحمن، عن سالم: مره فليراجعها، ثم ليطلقها طاهرا، أو حاملا. ورواه جماعة غير نافع، بلفظ: حتى تطهر من الحيضة، التي [ ص: 395 ] طلقها فيها، ثم إن شاء أمسكها. وهي رواية يونس بن جبير، وأنس بن سيرين، وسالم، فلم يقولوا: ثم تحيض، ثم تطهر، نعم رواية الزهري، عن سالم، موافقة لرواية نافع، كما نبه عليه أبو داود، والزيادة من الثقة مقبولة، خصوصا إذا كان حافظا .



(فصل)

الطلاق يكون بدعيا، وسنيا، وواجبا، ومكروها، فأما السني، فما تقدم في حديث ابن عمر، قال البخاري في صحيحه: وطلاق السنة: أن يطلقها طاهرا، من غير جماع، ويشهد شاهدين، أي: لقوله تعالى: وأشهدوا ذوي عدل منكم قال ابن عباس، فيما أخرجه ابن مردويه: كان نفر من المهاجرين يطلقون لغير عدة، ويراجعون بغير شهود، فنزلت.

وأما تسميته بالسني: فقال الشيخ كمال الدين بن الهمام، من أصحابنا، في فتح القدير: الطلاق السني: المسنون، وهو كالمندوب في استعقاب الثواب، والمراد به هنا: المباح; لأن الطلاق ليس عبادة في نفسه، ليثبت له ثواب، فالمسنون منه مما ثبت على وجه لا يستوجب عتابا، نعم لو وقعت له داعية أن يطلقها عقب جماعه، أو حائضا، فمنع نفسه إلى الطهر الآخر، فإنه يثاب، لكن لا على الطلاق في الطهر الخالي عن الحيض، بل على كف نفسه عن ذلك الوجه، امتناعا عن المعصية .

وأما البدعي: فطلاق مدخول بها، بلا عوض منها، في حيض، أو نفاس، أو عدة، أو طلاق رجعي، وهي تعتد بالأقراء، وذلك لمخالفته لقوله تعالى: فطلقوهن لعدتهن وزمن الحيض والنفاس لا يحسب من العدة، والمعنى فيه: تضررها بطول مدة التربص، أو في طهر جامعها فيه، أو استدخلت ماءه فيه، ولو كان الجماع، أو الاستدخال في حيض قبله، أو في الدبر إن لم يتبين حملها، وكانت ممن تحبل; لأدائه إلى الندم عند ظهور الحمل; لأن الإنسان قد يطلق الحائل دون الحامل، وعند الندم قد لا يمكنه التدارك، فيتضرر هو، والولد .

وألحقوا الجماع في الحيض، بالجماع في الطهر; لاحتمال العلوق فيه، والجماع في الدبر، كالجماع في القبل; لثبوت النسب، ووجوب العدة به، وهذا الطلاق حرا; للنهي عنه. وقال النووي: أجمعت الأمة على تحريمه بغير رضى المرأة، فإن طلقها أثم، ووقع طلاقه .

وأما الطلاق الواجب: ففي الإيلاء على المولي; لأن المدة إذا انقضت، وجب عليه الفيئة، أو الطلاق، وفي الشقاق على الحكمين إذا أمرت المظلومة، ولا بدعة فيه; للحاجة إليه، مع طلب الزوجة .

وأما المستحب: فعند خوف في تقصيره في حقها، لبغض، أو غيره، أو سيئة الخلق، أو بأن لا تكون عفيفة، وألحق به ابن الرفعة: طلاق الولد إذا أمره به والده، وقد تقدم ذلك .

وأما المكروه: فعند سلامة الحال; لحديث: ليس شيء من الحلال أبغض إلى الله من الطلاق، وقد تقدم أيضا .

وأما المباح: فطلاق من ألقي عليه عدم اشتهائها، بحيث يعجز، أو يتضرر بإكراهه نفسه على جماعها، فهذا إذا وقع، فإن كان قادرا على طول غيرها مع استبقائها، ورضيت بإقامتها في عصمته بلا وطء، أو بلا قسم، فيكره طلاقها، كما كان بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبين سودة، وإن لم يكن قادرا على طولها، أو لم ترض هي بترك حقها، فهو مباح، والله أعلم .




الخدمات العلمية