الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
قال ومشاورة أولي الرأي ، وفيه دليل على أن القاضي ، وإن كان عالما فينبغي له أن لا يدع مشاورة العلماء ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر الناس مشاورة لأصحابه رضي الله عنهم يستشيرهم حتى في قوت أهله وإدامهم { قال المشورة تلقح العقول } . وقال { صلى الله عليه وسلم ما هلك قوم عن مشورة قط } وكان عمر رضي الله عنه يستشير الصحابة رضوان الله عليهم مع فقهه حتى كان إذا رفعت إليه حادثة قال ادعوا إلي عليا وادعوا إلي زيد بن أبي كعب رضي الله عنهم فكان يستشيرهم ، ثم يفصل بما اتفقوا عليه فعرفنا أنه لا ينبغي للقاضي أن لا يدع المشاورة ، وإن كان فقيها ، ولكن في غير مجلس القضاء على ما بينا أن الاشتغال بالمشورة في مجلس القضاء ربما يحول بينه وبين [ ص: 72 ] فصل القضاء ، ويكون سببا لازدراء بعض الجهال به وعن مسروق قال لأن أقضي يوما بالحق أحب إلي من أن أرابط سنة فإن مسروقا ممن يقدم تقلد القضاء على الامتناع عنه ، وقد كان السلف رحمهم الله في ذلك مختلفين وابتلي مسروق بالقضاء ومن دخل في شيء فإنما يروي محاسن ذلك الشيء ، وقد بينا طريق أبي حنيفة رحمه الله في إيثار التحرز عن تقلد القضاء ، وإنما قال مسروق إن القضاء يوما بالحق أحب إلي من أن أرابط سنة لما في إظهار الحق من المنفعة للناس ودفع الظلم عن المظلوم واتصال الحق إلى المستحق ومنع الظالم عن الظلم وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله { عدل ساعة خير من عبادة سنة } .

وقال صلى الله عليه وسلم { لأن يقام حد في أرض خير من أن تمطر السماء فيها أربعين صباحا } وعن علي رضي الله عنه عنه قال القضاة ثلاثة فاثنان في النار وواحد في الجنة . فأما اللذان في النار فرجل علم علما فقضى بخلافه ورجل جاهل يقضي بغير علم وأما الآخر آتاه الله علما فقضى به فذلك في الجنة ولا شبهة في حق من قضى بخلاف ما علم فإنه أقدم على النار عن بصيرة وكتم ما علم من الحق فكان فعله كفعل رؤساء اليهود ، وفيه نزل قوله تعالى عز وجل { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات } .

وقال الله تعالى { وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون } وأما الجاهل فما كان ينبغي له أن يتقلد القضاء ويلتزم أداء هذه الأمانة ; لأنه لا يقدر على أدائها إلا بالعلم ففي التزام ما لا يقدر على القيام به ظلم نفسه ، وبعد التقلد لا ضرورة له إلى القضاء بغير علم لتمكنه من أن يتعلم ، أو يسأل العلماء ويقضي بفتواتهم ; فلهذا جعله في النار حين قضى بغير علم والذي قضى بعلمه أظهر الحق بحكمه ، وأنصف المظلوم من خصمه فهو في الجنة ومثل هذا لا يعرف إلا بالرأي فإنما يحمل على أن عليا رضي الله عنه كان سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكنهم فيما يسمعون ربما يرفعون وربما يرسلون وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال يجاء بالقاضي يوم القيامة وملك آخذ بقفاه ، ثم يلتفت . فإذا أقبل دفعه دفعة في مهواة أربعين خريفا

وأهل الحديث يروون هذا الحديث ( يجاء بالقاضي العدل يوم القيامة ) ليعلم أن حال من يعدل إذا كان بهذه الصفة فما ظنك في حال من يجور في قوله وملك آخذ بقفاه إشارة إلى ما يلقى من الذل يوم القيامة ، وإن كان عادلا في قضائه في الدنيا فإنما يفهم من الأخذ بالقفاء في عرف الناس الاستخفاف والذل وقيل في تأويله أنه ، وإن كان عادلا فقد نال بعض الوجاهة في الدنيا بسبب تقلد القضاء فهذا له في الآخرة لما نال من الجاه في الدنيا بطريق هو طريق العمل للآخرة ومعنى قوله دفعه في مهواة أربعين خريفا أي [ ص: 73 ] دفعه على وجهه في النار كما قال الله تعالى { يوم يسحبون في النار على وجوههم } وكأن المراد من هذا أن من نافق وأظهر ما يعلم الله منه خلافه فقد كان قصده من ذلك حفظ ماء وجهه يلقى في النار على وجهه ولا يستقر إلا في قعر جهنم هو المراد من قوله في مهواة أربعين خريفا ، وهذا بيان في قوله تعالى { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } قال وبلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { من ابتلي أن يقضي بين اثنين فكأنما يذبح نفسه بغير سكين } والحصاف يروي هذا { من ابتلي بالقضاء فكأنما ذبح بغير سكين } ، وفيه بيان التحريز عن طلب القضاء والتحرز عن التقلد فكل عاقل ممتنع من أن يذبح نفسه بغير سكين فينبغي أن يكون تحرزه عن طلب القضاء بتلك الصفة فذكر المثل من النبي صلى الله عليه وسلم كان للتقريب من الفهم .

( قال ) رحمه الله وكان شيخنا الإمام رحمه الله يقول لا ينبغي لأحد أن يزدري بهذا اللفظ كي لا يصيبه ما أصاب ذلك القاضي فقد حكي أن قاضيا روي له هذا الحديث فازدرى به . وقال كيف يكون هذا ، ثم دعا في مجلسه بمن يسوي شعره فجعل الحلاق بعض الشعر من تحت ذقنه إذ عطس فأصابه الموسى فألقى رأسه بين يديه

التالي السابق


الخدمات العلمية