الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون ) ، ( قضى ) ، إن كانت هنا بمعنى قدر وكتب ، كانت ( ثم ) هنا للترتيب في الذكر ، لا في الزمان; لأن ذلك سابق على خلقنا ، إذ هي صفة ذات ، وإن كانت بمعنى ( أظهر ) ، كانت للترتيب الزماني على أصل وضعها; لأن ذلك متأخر عن خلقنا ، فهي صفة فعل . والظاهر من تنكير الأجلين ، أنه تعالى أبهم أمرهما . وقال الحسن : ومجاهد وعكرمة وخصيف وقتادة : الأول أجل الدنيا من وقت الخلق إلى الموت ، والثاني أجل الآخرة; لأن الحياة في الآخرة ، لا انقضاء لها ، ولا يعلم كيفية الحال في هذا الأجل ، إلا الله تعالى . وروي عن ابن عباس أن الأول ، هو وفاته بالنوم ، والثاني بالموت . وقال أيضا : الأول أجل الدنيا ، والثاني الآخرة . وقال مجاهد أيضا : الأول الآخرة ، والثاني الدنيا . وقال ابن زيد : الأول ، هو في وقت أخذ الميثاق على بني آدم حين استخرجهم من ظهر آدم ، والمسمى في هذه الحياة الدنيا . وقال أبو مسلم : الأول أجل الماضين ، والثاني أجل الباقين ، ووصفه بأنه مسمى عنده; لأنه تعالى مختص به بخلاف الماضين ، فإنهم لما ماتوا علمت آجالهم . وقيل : الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت ، والثاني ما بين الموت والبعث ، وهو البرزخ . وقيل : الأول مقدار ما انقضى من عمر كل إنسان ، والثاني مقدار ما بقي . وقيل : الأول أجل الأمم السالفة ، والثاني أجل هذه الأمة . وقيل : الأول ما علمناه أنه لا نبي بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - ، [ ص: 71 ] والثاني من الآخرة . وقيل : الأول ما عرف الناس من آجال الأهلة والسنين والكوائن ، والثاني قيام الساعة . وقيل : الأول من أوقات الأهلة وما أشبهها ، والثاني موت الإنسان . وقال ابن عباس ومجاهد أيضا ( قضى أجلا ) بانقضاء الدنيا ، والثاني لابتداء الآخرة . وروي عن ابن عباس أنه قال : لكل أحد أجلان ، فإن كان تقيا وصولا للرحم ، زيد له من أجل البعث في أجل العمر ، وإن كان بالعكس ، نقص من أجل العمر ، وزيد في أجل البعث . وقال أبو عبد الله الرازي : لكل إنسان أجلان الطبيعي والاخترامي . فالطبيعي; هو الذي لو بقي ذلك المزاج مصونا عن العوارض الخارجة ، لانتهت مدة بقائه إلى الأوقات الفلكية . والاخترامي; هو الذي يحصل بسبب الأسباب الخارجية ، كالحرق والغرق ، ولدغ الحشرات وغيرها من الأمور المنفصلة انتهى . وهذا قول المعتزلة ، وهو نقله عنهم وقال : هذا قول حكماء الإسلام انتهى . ومعنى ( مسمى عنده ) معلوم عنده ، أو مذكور في اللوح المحفوظ ، وعنده مجاز عن علمه ، ولا يراد به المكان . وقال الزمخشري : فإن قلت : المبتدأ النكرة إذا كان خبره ظرفا ، وجب تقديمه فلما جاز تقديمه في قوله : ( وأجل مسمى عنده ) .

قلت : لأنه تخصيص بالصفة فقارب المعرفة كقوله : ( ولعبد مؤمن خير من مشرك ) انتهى . وهذا الذي ذكره من مسوغ الابتداء بالنكرة; لكونها وصفت لا يتعين هنا أن يكون هو المسوغ; لأنه يجوز أن يكون المسوغ هو التفصيل; لأن من مسوغات الابتداء بالنكرة ، أن يكون الموضع موضع تفصيل ، نحو قوله :


إذا ما بكى من خلفها انحرفت له بشق وشق عندنا لم يحول

وقد سبق كلامنا على هذا البيت ، وبينا أنه لا يجوز أن يكون عندنا في موضع الصفة ، بل يتعين أن يكون في موضع الخبر . وقال الزمخشري : فإن قلت : الكلام السائر أن يقال : عندي ثوب جيد ، ولي عبد كيس ، وما أشبه ذلك . قلت : أوجبه أن المعنى وأي ( أجل مسمى عنده ) تعظيما لشأن الساعة ، فلما جرى فيه هذا المعنى ، وجب التقديم انتهى . وهذا لا يجوز لأنه إذا كان التقدير وأي ( أجل مسمى عنده ) ، كانت أي صفة لموصوف محذوف ، تقديره : وأجل أي ( أجل مسمى عنده ) ، ولا يجوز حذف الصفة إذا كانت أيا ، ولا حذف موصوفها وإبقاؤها ، فلو قلت : مررت بأي رجل ، تريد برجل أي رجل ، لم يجز ( وتمترون ) معناه تشكون أو تجادلون جدال الشاكين ، والتماري المجادلة على مذهب الشك ، قاله بعض المفسرين . والكلام في ( ثم ) هنا كالكلام فيها في قوله : ( ثم الذين كفروا ) والذي يظهر لي أن قوله تعالى : ( هو الذي خلقكم ) على جهة الخطاب ، هو التفات من الغائب الذي هو قوله : ( ثم الذين كفروا ) ، وإن كان الخلق وقضاء الأجل ليس مختصا بالكفار ، إذ اشترك فيه المؤمن والكافر ، لكنه قصد به الكافر; تنبيها له على أصل خلقه ، وقضاء الله تعالى عليه وقدرته ، وإنما قلت إنه من باب الالتفات; لأن قوله : ( ثم أنتم تمترون ) ، لا يمكن أن يندرج في هذا الخطاب من اصطفاه الله بالنبوة والإيمان .

( وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون ) لما تقدم ما يدل على القدرة التامة والاختيار ، ذكر ما [ ص: 72 ] يدل على العلم التام ، فكان في التنبيه على هذه الأوصاف دلالة على كونه تعالى قادرا مختارا عالما بالكليات والجزئيات ، وإبطالا لشبه منكر المعاد . والظاهر أن ( هو ) ضمير عائد على ما عادت عليه الضمائر قبله ( وهو الله ) وهذا قول الجمهور ، قاله الكرماني . وقال أبو علي : ( هو ) ضمير الشأن ( والله ) مبتدأ خبره ما بعده ، والجملة مفسرة لضمير الشأن ، وإنما فر إلى هذا; لأنه إذا لم يكن ضمير الشأن كان عائدا على الله تعالى ، فيصير التقدير الله و ( الله ) ، فينعقد مبتدأ وخبر من اسمين متحدين لفظا ومعنى ، لا نسبة بينهما إسنادية ، وذلك لا يجوز ، فلذلك ، والله أعلم ، تأول . أبو علي : الآية على أن الضمير ضمير الأمر ( والله ) ، خبره يعلم في ( السماوات وفي الأرض ) متعلق بـ ( يعلم ) ، والتقدير; الله يعلم ( في السماوات وفي الأرض ) ، ( سركم وجهركم ) ، ذهب الزجاج إلى أن قوله : ( في السماوات ) متعلق بما تضمنه اسم الله من المعاني ، كما يقال : أمير المؤمنين الخليفة في المشرق والمغرب . قال ابن عطية : وهذا عندي أفضل الأقوال وأكثرها إحرازا لفصاحة اللفظ وجزالة المعنى ، وإيضاحه أنه أراد أن يدل على خلقه ، وآثار قدرته وإحاطته واستيلائه ، ونحو هذه الصفات ، فجمع هذه كلها في قوله : ( وهو الله ) أي الذي له هذه كلها ( في السماوات وفي الأرض ) ، كأنه قال : وهو الخالق الرازق ، والمحيي المحيط في السماوات ، وفي الأرض ، كما تقول : زيد السلطان في الشام والعراق ، فلو قصدت ذات زيد ، لقلت : محالا ، وإذا كان مقصد قولك زيد السلطان ، الآمر الناهي ، الناقض المبرم ، الذي يعزل ويولي في الشام والعراق ، فأقمت السلطان مقام هذه كلها ، كان فصيحا صحيحا ، فكذلك في الآية أقام لفظة ( الله ) مقام تلك الصفات المذكورة انتهى . وما ذكره الزجاج وأوضحه ابن عطية صحيح من حيث المعنى ، لكن صناعة النحو لا تساعد عليه; لأنهما زعما أن ( في السماوات ) متعلق بلفظ ( الله ) لما تضمنه من المعاني ، ولا تعمل تلك المعاني جميعها في اللفظ; لأنه لو صرح بها جميعها ، لم تعمل فيه ، بل العمل من حيث اللفظ لواحد منها ، وإن كان ( في السماوات ) متعلقا بها جميعها من حيث المعنى ، بل الأولى أن يعمل في المجرور ما تضمنه لفظ ( الله ) من معنى الألوهية ، وإن كان لفظ ( الله ) علما; لأن الظرف والمجرور قد يعمل فيهما العلم بما تضمنه من المعنى ، كما قال : أنا أبو المنهال بعض الأحيان ، فـ ( بعض ) منصوب بما تضمنه أبو المنهال ، كأنه قال : أنا المشهور بعض الأحيان . وقال الزمخشري : نحوا من هذا ، قال : ( في السماوات ) متعلق بمعنى اسم الله ، كأنه قيل : وهو المعبود فيهما ، ومنه قوله : ( وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ) أي : وهو المعروف بالإلهية ، أو المتوحد بالإلهية فيها ، أو هو الذي يقال له : الله فيها لا يشرك في هذا الاسم انتهى . فانظر [ ص: 73 ] تقاديره كلها ، كيف قدر العامل واحدا من المعاني لا جميعها . وقالت فرقة ( هو ) على تقدير صفة حذفت ، وهي مرادة في المعنى ، كأنه قيل : هو الله المعبود ( في السماوات وفي الأرض ) وقدرها بعضهم ، وهو الله المدبر ( في السماوات وفي الأرض ) . وقالت فرقة : ( وهو الله ) تم الكلام هنا . ثم استأنف ما بعده ، وتعلق المجرور بـ ( يعلم ) . وقالت فرقة : ( وهو الله ) تام ، و ( في السماوات وفي الأرض ) متعلق بمفعول ( يعلم ) وهو ( سركم وجهركم ) ، والتقدير يعلم سركم وجهركم في السماوات وفي الأرض ، وهذا يضعف; لأن فيه تقديم مفعول المصدر الموصول عليه . والعجب من النحاس حيث قال : هذا من أحسن ما قيل : فيه . وقالت فرقة : هو ضمير الأمر ، والله مرفوع على الابتداء ، وخبره ( في السماوات ) ، والجملة خبر عن ضمير الأمر; وتم الكلام ، ثم استأنف فقال : ( وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ) أي : ويعلم في الأرض . وقال ابن جرير نحوا من هذا ، إلا أن ( هو ) عائد على ما عادت عليه الضمائر قبل ، وليس ضمير الأمر ، وقيل : يتعلق ( في السماوات ) بقوله : ( تكسبون ) هذا خطأ لأن ( ما ) موصولة بـ ( تكسبون ) ، وسواء كانت حرفا مصدريا ، أم اسما بمعنى ( الذي ) ، فإنه لا يجوز تقديم معمول الصلة على الموصول . وقيل : ( في السماوات ) حال من المصدر الذي هو ( سركم وجهركم ) تقدم على ذي الحال ، وعلى العامل . وقال الزمخشري : يجوز أن يكون ( الله في السماوات ) خبرا بعد خبر ، على معنى أنه الله ، وأنه في السماوات والأرض ، بمعنى أنه عالم بما فيهما ، لا يخفى عليه شيء منه ، كأن ذاته فيها ، وهو ضعيف; لأن المجرور بـ ( في ) لا يدل على وصف خاص ، إنما يدل على كون مطلق . وعلى هذه الأقوال ينبني إعراب هذه الآية ، وإنما ذهب أهل العلم إلى هذه التأويلات ، والخروج عن ظاهر ( في السماوات وفي الأرض ) لما قام عليه دليل العقل من استحالة حلول الله تعالى في الأماكن ، ومماسة الإجرام ، ومحاذاته لها ، وتحيزه في جهة ، قال معناه ، وبعض لفظه ابن عطية . وفي قوله : ( يعلم سركم ) إلى آخره خبر في ضمنه تحذير وزجر . قال أبو عبد الله الرازي : المراد بالسر : صفات القلوب ، وهو الدواعي والصوارف ، وبالجهر أعمال الجوارح ، وقدم السر لأن ذكر المؤثر في الفعل ، هو مجموع القدرة مع الداعي ، فالداعية التي هي من باب السر ، هي المؤثرة في أعمال الجوارح المسماة بالجهر ، وقد ثبت أن العلم بالعلة ، علة العلم بالمعلول ، والعلة متقدمة على المعلول ، والمقدم بالذات يجب تقديمه بحسب اللفظ انتهى . قال التبريزي : معناه يعلم ما تخفونه من أعمالكم ونياتكم ، وما تظهرون من أعمالكم ، وما تكسبون عام لجميع الاعتقادات والأقوال والأفعال ، وكسب كل إنسان عمله المفضي به إلى اجتلاب نفع ، أو دفع ضر ، ولهذا لا يوصف به الله تعالى . وقال أبو عبد الله الرازي : وفي أول كلامه شيء من معنى كلام الزمخشري ، يجب حمل قوله : ( ما تكسبون ) على ما يستحقه الإنسان على فعله من ثواب وعقاب ، فهو محمول على المكتسب ، كما يقال هذا المال كسب فلان; أي مكتسبه ، ولا يجوز حمله على نفس الكسب ، وإلا لزم عطف الشيء على نفسه . وفي هذه الآية رد على المعطلة والثنوية والحشوية والفلاسفة انتهى . وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف موقع قوله : ( يعلم سركم وجهركم ) ، قلت : إن أراد المتوحد بالإلهية ، كان تقريرا له; لأن الذي استوى في علمه السر والعلانية ، هو الله وحده ، وكذلك إذا جعلت ( في السماوات ) خبرا بعد خبر ، وإلا فهو كلام مبتدأ ، أو خبر ثالث انتهى . وهذا على مذهب من يجيز أن يكون للمبتدأ أخبار متعددة .

( وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين ) . ( من ) الأولى زائدة لاستغراق الجنس ، ومعنى الزيادة فيها أن ما بعدها معمول لما قبلها فاعل بقوله : ( تأتيهم ) ، فإذا كانت [ ص: 74 ] النكرة بعدها مما لا يستعمل إلا في النفي العام ، كانت ( من ) لتأكيد الاستغراق ، نحو : ما في الدار من أحد ، وإذا كانت مما يجوز أن يراد بها الاستغراق ، ويجوز أن يراد بها نفي الوحدة ، أو نفي الكمال ، كانت ( من ) ، دالة على الاستغراق ، نحو : ما قام من رجل . و ( من ) الثانية للتبعيض . قال الزمخشري : يعني وما يظهر لهم قط دليل من الأدلة التي يجب فيها النظر والاستدلال والاعتبار ، إلا كانوا عنه ( معرضين ) تاركين للنظر ، لا يلتفتون إليه ، ولا يرفعون به رأسا; لقلة خوفهم وتدبرهم للعواقب انتهى . واستعمال الزمخشري قط مع المضارع في قوله : وما يظهر لهم قط دليل ، ليس بجيد; لأن قط ظرف مختص بالماضي ، إلا إن كان أراد بقوله : وما يظهر ، وما ظهر ، ولا حاجة إلى استعمال ذلك . وقيل : ( الآية ) هنا العلامة على وحدانية الله ، وانفراده بالألوهية . وقيل : الرسالة . وقيل : المعجز الخارق . وقيل : القرآن ، ومعنى ( عنها ) أي : عن قبولها أو سماعها ، والإعراض ضد الإقبال ، وهو مجاز ، إذ حقيقته في الأجسام ، والجملة من قوله : ( كانوا ) ومتعلقها في موضع الحال ، فيكون ( تأتيهم ) ماضي المعنى; لقوله : ( كانوا ) ، أو يكون ( كانوا ) مضارع المعنى; لقوله : ( تأتيهم ) ، وذو الحال ، هو الضمير في ( تأتيهم ) ، ولا يأتي ماضيا إلا بأحد شرطين ، أحدهما : أن يسبقه فعل كما في هذا الآية ، والثاني أن تدخل على ذلك الماضي ( قد ) ، نحو ما زيد إلا قد ضرب عمرا ، وهذا التفات ، وخروج من الخطاب إلى الغيبة ، والضمير عائد على ( الذين كفروا ) . وتضمنت هذه الآية مذمة هؤلاء ( الذين كفروا ) بأنهم يعرضون عن كل آية ترد عليهم ، ولما تقدم الكلام أولا في التوحيد ، وثانيا في المعاد ، وثالثا في تقرير هذين المطلوبين ، ذكر بعد ذلك ما يتعلق بتقرير النبوة ، وبين فيه أنهم أعرضوا عن تأمل الدلائل ، ويدل ذلك على أن التقليد باطل ، وأن التأمل في الدلائل ، واجب ، ولذلك ذموا بإعراضهم عن الدلائل .

( فقد كذبوا بالحق لما جاءهم ) ، ( الحق ) القرآن أو الإسلام أو محمد أو انشقاق القمر أو الوعد أو الوعيد ، أقوال ، والذي يظهر أنه الآية التي تأتيهم ، وكأنه قيل : ( فقد كذبوا ) بالآية التي تأتيهم ، وهي ( الحق ) فأقام الظاهر مقام المضمر; لما في ذلك من وصفه بالحق ، وحقيقته كونه من آيات الله تعالى . وظاهر قوله : ( فقد كذبوا ) أن الفاء للتعقيب ، وأن إعراضهم عن الآية أعقبه التكذيب . وقال الزمخشري : ( فقد كذبوا ) مردود على كلام محذوف ، كأنه قيل : إن كانوا معرضين عن الآيات ، ( فقد كذبوا ) بما هو أعظم آية وأكبرها ، وهو الحق لما جاءهم ، يعني القرآن الذي تحدوا به على تبالغهم في الفصاحة ، فعجزوا عنه انتهى . ولا ضرورة تدعو إلى شرط محذوف ، إذ الكلام منتظم بدون هذا التقدير .

( فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون ) هذا يدل على أنهم وقع منهم الاستهزاء ، [ ص: 75 ] فيكون في الكلام معطوف محذوف ، دل عليه آخر الآية ، وتقديره : واستهزءوا به ( فسوف يأتيهم ) وهذه رتب ثلاث صدرت من هؤلاء الكفار ، الإعراض عن تأمل الدلائل ، ثم أعقب الإعراض التكذيب ، وهو أزيد من الإعراض ، إذ المعرض قد يكون غافلا عن الشيء ، ثم أعقب التكذيب الاستهزاء ، وهو أزيد من التكذيب ، إذ المكذب قد لا يبلغ إلى حد الاستهزاء ، وهذه هي المبالغة في الإنكار . والنبأ : الخبر الذي يعظم وقعه ، وفي الكلام حذف مضاف; أي : ( فسوف يأتيهم ) مضمن ( أنباء ) ، فقال قوم : المراد ما عذبوا به في الدنيا من القتل والسبي والنهب والإجلاء ، وغير ذلك ، وخصص بعضهم ذلك بيوم بدر . وقيل : هو عذاب الآخرة ، وتضمنت هذه الجملة التهديد والزجر والوعيد ، كما تقول : اصنع ما تشاء ، فسيأتيك الخبر ، وعلق التهديد بالاستهزاء دون الإعراض والتكذيب ، لتضمنه إياهما ، إذ هو الغاية القصوى في إنكار الحق . وقال الزمخشري : وهو القرآن; أي أخباره وأحواله ، بمعنى سيعلمون بأي شيء استهزءوا ، وسيظهر لهم أنه لم يكن موضع استهزاء ، وذلك عند إرسال العذاب عليهم في الدنيا أو يوم القيامة أو عند ظهور الإسلام وعلو كلمته انتهى . وهو على عادته في الإسهاب وشرح اللفظ والمعنى مما لا يدلان عليه . وجاء هنا تقييد الكذب بالحق ، والتنفيس بـ ( سوف ) . وفي الشعراء ، فقد كذبوا فسيأتيهم; لأن الأنعام متقدمة في النزول على الشعراء ، فاستوفى فيها اللفظ ، وحذف من الشعراء ، وهو مراد حالة على الأول ، وناسب الحذف الاختصار في حرف التنفيس ، فجاء بالسين . والظاهر أن ( ما ) في قوله : ( ما كانوا ) موصولة اسمية ، بمعنى ( الذي ) ، والضمير في ( به ) عائد عليها . وقال ابن عطية : يصح أن تكون مصدرية . التقدير ( أنباء ) كونهم مستهزئين ، فعلى هذا يكون الضمير في ( به ) عائدا على الحق ، لا على مذهب الأخفش ، حيث زعم أن ( ما ) المصدرية اسم لا حرف ، ولا ضرورة تدعو إلى كونها مصدرية .

التالي السابق


الخدمات العلمية