الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ) ففيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : قال الحسن والأصم كان الرجل في الجاهلية إذا هم بشيء فتعسر عليه مطلوبه لم يدخل بيته من بابه بل يأتيه من خلفه ويبقى على هذه الحالة حولا كاملا ، فنهاهم الله تعالى عن ذلك لأنهم كانوا يفعلونه تطيرا ، وعلى هذا تأويل الآية ليس البر أن تأتوا البيوت من ظهورها على وجه التطير ، لكن البر من يتقي الله ولم يتق غيره ولم يخف شيئا كان يتطير به ، بل توكل على الله تعالى واتقاه وحده ، ثم قال : ( واتقوا الله لعلكم تفلحون ) أي لتفوزوا بالخير في الدين والدنيا كقوله : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ) [ الطلاق : 3 ] ( ومن يتق الله يجعل له من ) [ ص: 107 ] ( أمره يسرا ) [ الطلاق : 4 ] وتمام التحقيق في الآية أن من رجع خائبا يقال : ما أفلح وما أنجح ، فيجوز أن يكون الفلاح المذكور في الآية هو أن الواجب عليكم أن تتقوا الله حتى تصيروا مفلحين منجحين ، وقد وردت الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عن التطير ، وقال : " لا عدوى ولا طيرة " ، وقال : " من رده عن سفره تطير فقد أشرك " أو كما قال ، وأنه كان يكره الطيرة ويحب الفأل الحسن ، وقد عاب الله تعالى قوما تطيروا بموسى ومن معه ( قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله ) [ النمل : 47 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني في سبب نزول هذه الآية : روي أنه في أول الإسلام كان إذا أحرم الرجل منهم فإن كان من أهل المدن نقب في ظهر بيته منه يدخل ويخرج ، أو يتخذ سلما يصعد منه سطح داره ثم ينحدر ، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء ، فقيل لهم : ليس البر بتحرجكم عن دخول الباب ، ولكن البر من اتقى .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثالث : إن أهل الجاهلية إذا أحرم أحدهم نقب خلف بيته أو خيمته نقبا منه يدخل ويخرج إلا الحمس ، وهم قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وخيثم وبنو عامر بن صعصعة وبنو نصر بن معاوية ، وهؤلاء سموا حمسا لتشددهم في دينهم ، الحماسة : الشدة ، وهؤلاء متى أحرموا لم يدخلوا بيوتهم البتة ولا يستظلون الوبر ولا يأكلون السمن والأقط ، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان محرما ورجل آخر كان محرما ، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حال كونه محرما من باب بستان قد خرب فأبصره ذلك الرجل الذي كان محرما فاتبعه ، فقال عليه السلام : تنح عني ، قال : ولم يا رسول الله ؟ قال : دخلت الباب وأنت محرم فوقف ذلك الرجل فقال : إني رضيت بسنتك وهديك وقد رأيتك دخلت فدخلت فأنزل الله تعالى هذه الآية وأعلمهم أن تشديدهم في أمر الإحرام ليس ببر ولكن البر من اتقى مخالفة الله وأمرهم بترك سنة الجاهلية فقال : ( وأتوا البيوت من أبوابها ) فهذا ما قيل في سبب نزول هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : ذكروا في تفسير الآية ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : وهو قول أكثر المفسرين حمل الآية على هذه الأحوال التي رويناها في سبب النزول ، إلا أن على هذا التقدير صعب الكلام في نظم الآية ، فإن القوم سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحكمة في تغيير نور القمر ، فذكر الله تعالى الحكمة في ذلك ، وهي قوله : ( قل هي مواقيت للناس والحج ) ، فأي تعلق بين بيان الحكمة في اختلاف نور القمر ، وبين هذه القصة ؟ ثم القائلون بهذا القول أجابوا عن هذا السؤال من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن الله تعالى لما ذكر أن الحكمة في اختلاف أحوال الأهلة جعلها مواقيت للناس والحج ، وكان هذا الأمر من الأشياء التي اعتبرها في الحج لا جرم تكلم الله تعالى فيه .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أنه تعالى إنما وصل قوله : ( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ) بقوله : ( يسألونك عن الأهلة ) لأنه إنما اتفق وقوع القصتين في وقت واحد فنزلت الآية فيهما معا في وقت واحد ووصل أحد الأمرين بالآخر .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : كأنهم سألوا عن الحكمة في اختلاف حال الأهلة فقيل لهم : اتركوا السؤال عن هذا الأمر الذي لا يعنيكم وارجعوا إلى ما البحث عنه أهم لكم فإنكم تظنون أن إتيان البيوت من ظهورها بر وليس الأمر كذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني : في تفسير الآية أن قوله تعالى : ( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ) مثل ضربه الله تعالى لهم ، وليس المراد ظاهره ، وتفسيره أن الطريق المستقيم المعلوم هو أن يستدل بالمعلوم على [ ص: 108 ] المظنون ، فأما أن يستدل بالمظنون على المعلوم فذاك عكس الواجب وضد الحق وإذا عرفت هذا فنقول : إنه قد ثبت بالدلائل أن للعالم صانعا مختارا حكيما ، وثبت أن الحكيم لا يفعل إلا الصواب البريء عن العبث والسفه ، ومتى عرفنا ذلك ، وعرفنا أن اختلاف أحوال القمر في النور من فعله علمنا أن فيه حكمة ومصلحة ، وذلك لأن علمنا بهذا الحكيم الذي لا يفعل إلا الحكمة يفيدنا القطع بأن فيه حكمة ، لأنه استدلال بالمعلوم على المجهول ، فأما أن يستدل بعدم علمنا بما فيه من الحكمة على أن فاعله ليس بالحكيم ، فهذا الاستدلال باطل ، لأنه استدلال بالمجهول على القدح في المعلوم إذا عرفت هذا ، فالمراد من قوله تعالى : ( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ) يعني أنكم لما لم تعلموا حكمته في اختلاف نور القمر صرتم شاكين في حكمة الخالق ، فقد أتيتم الشيء لا من البر ولا من كمال العقل إنما البر بأن تأتوا البيوت من أبوابها فتستدلوا بالمعلوم المتيقن وهو حكمة خالقها على هذا المجهول فتقطعوا بأن فيه حكمة بالغة ، وإن كنتم لا تعلمونها ، فجعل إتيان البيوت من ظهورها كناية عن العدول عن الطريق الصحيح ، وإتيانها من أبوابها كناية عن التمسك بالطريق المستقيم ، وهذا طريق مشهور في الكناية فإن من أرشد غيره إلى الوجه الصواب يقول له : ينبغي أن تأتي الأمر من بابه ، وفي ضده يقال : إنه ذهب إلى الشيء من غير بابه ، قال تعالى : ( فنبذوه وراء ظهورهم ) [ آل عمران : 187 ] ، وقال : ( واتخذتموه وراءكم ) [ هود : 92 ] فلما كان هذا طريقا مشهورا معتادا في الكنايات ، ذكره الله تعالى ههنا ، وهذا تأويل المتكلمين ولا يصح تفسير هذه الآية فإن تفسيرها بالوجه الأول يطرق إلى الآية سوء الترتيب وكلام الله منزه عنه .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثالث : في تفسير الآية ما ذكره أبو مسلم ، أن المراد من هذه الآية ما كانوا يعلمونه من النسيء ، فإنهم كانوا يخرجون الحج عن وقته الذي عينه الله له فيحرمون الحلال ويحلون الحرام ، فذكر إتيان البيوت من ظهورها مثل لمخالفة الواجب في الحج وشهوره .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قوله تعالى : ( ولكن البر من اتقى ) تقديره : ولكن البر بر من اتقى فهو كقوله : ( ولكن البر من آمن بالله ) [ البقرة : 177 ] وقد تقدم تقريره .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ، وقالون عن نافع " البيوت " بكسر الباء لأنهم استثقلوا الخروج من ضمة باء إلى ياء ، والباقون بالضم على الأصل وللقراء فيها وفي نظائرها نحو بيوت ، وعيون ، وجيوب ، مذاهب واختلافات يطول تفصيلها .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( واتقوا الله ) فقد بينا دخول كل واجب واجتناب كل محرم تحته ( لعلكم تفلحون ) لكي تفلحوا ، والفلاح هو الظفر بالبغية ، قالت المعتزلة : وهذا يدل على إرادته تعالى الفلاح من جميعهم ، لأنه لا تخصيص في الآية والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية