الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون ) " كم " هنا خبرية ، التقدير : وكثير من القرى أهلكناها وأعاد الضمير في أهلكناها على معنى كم وهي في موضع رفع بالابتداء ، وأهلكناها جملة في موضع الخبر وأجازوا أن تكون في موضع نصب بإضمار فعل يفسره أهلكناها تقديره : وكم من قرية أهلكناها ، ولا بد في الآية من تقدير محذوف مضاف لقوله : أو هم قائلون فمنهم من قدره وكم من أهل قرية ومنهم من قدره أهلكنا أهلها وينبغي أن يقدر عند قوله : ( فجاءها ) ، أي : فجاء أهلها لمجيء الحال من أهلها بدليل ، أو هم قائلون ؛ لأنه يمكن إهلاك القرى بالخسف والهدم وغير ذلك فلا ضرورة تدعو إلى حذف المضاف قبل قوله : ( فجاءها ) . وقرأ ابن أبي عبلة ( وكم من قرية أهلكناها فجاءها ) فيقدر المضاف وكم من أهل قرية ، ولا بد من تقديره صفة للقرية محذوفة ، أي : من قرية عاصية ويعقب مجيء البأس وقوع الإهلاك لا يتصور فلا بد من تجوز إما في الفعل بأن يراد به أردنا إهلاكها ، أو حكمنا بإهلاكها ( فجاءها بأسنا ) وإما أن يختلف المدلولان بأن يكون المعنى أهلكناها بالخذلان وقلة التوفيق فجاءها بأسنا بعد ذلك ، وإما أن يكون التجوز في الفاء بأن تكون بمعنى الواو وهو ضعيف ، أو تكون لترتيب القول فقط فكأنه أخبر عن قرى كثيرة أنه أهلكها ، ثم قال فكان من أمرها مجيء البأس . وقال الفراء : إن الإهلاك هو مجيء البأس ، ومجيء البأس هو الإهلاك فلما تلازما لم يبال أيهما قدم في الرتبة ، كما تقول شتمني فأساء وأساء فشتمني ؛ لأن الإساءة والشتم شيء واحد . وقيل : الفاء ليست للتعقيب وإنما هي للتفسير ، كقوله : توضأ فغسل كذا ، ثم كذا . وانتصب بياتا على الحال وهو مصدر ، أي : ( فجاءها بأسنا ) بائتين ، أو قائلين ، وأو هنا للتنويع ، أي : جاء مرة ليلا كقوم لوط ومرة وقت القيلولة كقوم شعيب ، وهذا فيه نشر لما لف في قوله : ( فجاءها ) وخص مجيء البأس بهذين [ ص: 269 ] الوقتين ؛ لأنهما وقتان للسكون والدعة والاستراحة فمجيء العذاب فيهما أقطع وأشق ولأنه يكون المجيء فيه على غفلة من المهلكين ، فهو كالمجيء بغتة وقوله : ( أو هم قائلون ) جملة في موضع الحال ، ونص أصحابنا أنه إذ دخل على جملة الحال واو العطف فإنه لا يجوز دخول واو الحال عليها فلا يجوز جاء زيد ماشيا وهو راكب . وقال الزمخشري : فإن قلت : لا يقال جاء زيد هو فارس بغير واو فما بال قوله تعالى : ( أو هم قائلون ) قلت : قدر بعض النحويين الواو محذوفة ، ورده الزجاج . وقال : لو قلت جاءني زيد راجلا ، أو هو فارس ، أو جاءني زيد هو فارس لم يحتج فيه إلى واو ؛ لأن الذكر قد عاد إلى الأول ، والصحيح أنها إذا عطفت على حال قبلها حذفت الواو استثقالا لاجتماع حرفي عطف ؛ لأن واو الحال هي واو العطف استعيرت للوصل فقولك جاء زيد راجلا ، أو هو فارس كلام فصيح وارد على حده ، وأما جاءني زيد هو فارس فخبيث . انتهى . فأما بعض النحويين الذي اتهمه الزمخشري فهو الفراء ، وأما قول الزجاج في التمثيلين لم يحتج فيه إلى الواو ؛ لأن الذكر قد عاد إلى الأول ففيه إبهام وتعيينه لم يجز دخولها في المثال الأول ويجوز أن يدخل في المثال الثاني فانتفاء الاحتياج ليس على حد سواء ؛ لأنه في الأول لامتناع الدخول وفي الثاني لكثرة الدخول لا لامتناعه ، وأما قول الزمخشري والصحيح إلى آخرها فتعليله ليس بصحيح ؛ لأن واو الحال ليست حرف عطف فيلزم من ذكرها اجتماع حرفي عطف ؛ لأنها لو كانت للعطف للزم أن يكون ما قبل الواو حالا حتى يعطف حالا على حال فمجيئها في ما لا يمكن أن يكون حالا دليل على أنها ليست واو عطف ولا لحظ فيها معنى واو عطف تقول جاء زيد والشمس طالعة فجاء زيد ليس بحال فيعطف عليه جملة حالية وإنما هذه الواو مغايرة لواو العطف بكل حال ، وهي قسم من أقسام الواو كما تأتي للقسم وليست فيه للعطف ، إذا قلت والله ليخرجن ، وأما قوله : فخبيث فليس بخبيث وذلك أنه بناه على أن الجملة الاسمية إذا كان فيها ضمير ذي الحال فإن حذف الواو منها شاذ ، وتبع في ذلك الفراء وليس بشاذ ، بل هو كثير وقوعه في القرآن وفي كلام العرب نثرها ونظمها وهو أكثر من رمل بيرين ومها فلسطين ، وقد ذكرنا كثرة مجيء ذلك في شرح التسهيل ، وقد رجع عن هذا المذهب الزمخشري إلى مذهب الجماعة .

التالي السابق


الخدمات العلمية