الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي سبب الرجفة مختلف فيه ، وهو مرتب على تفسير الميقات فهل الرجفة عقوبة على سكوتهم وإغضائهم على عبادة العجل ، أو عقوبة على سؤالهم الرؤية ، أو عقوبة لتشططهم في الدعاء المذكور ، أو سببه سماع كلام هارون وهو ميت ، أقوال . وقال السدي : عقوبة على عبادة هؤلاء السبعين [ ص: 400 ] باختيارهم العجل ، وخفي ذلك عن موسى في وقت الاختيار حتى أعلمه الله ، وأخذ الرجفة يحتمل أن نشأ عنه الموت ، ويحتمل أن نشأ عنه الغشي ، وهما قولان ، وقال السدي : قال موسى : كيف أرجع إلى بني إسرائيل وقد أهلكت خيارهم ؟ فماذا أقول ؟ وكيف يأمنونني على أحد ؟ فأحياهم الله ; وقيل : أخذتهم الرعدة حتى كادت تبين مفاصلهم وتنتقض ظهورهم ، وخاف موسى الموت ، فعند ذلك بكى ودعا فكشف عنهم ، قال الزمخشري : وهذا تمن منه للإهلاك قبل أن يرى ما رأى من تبعة طلب الرؤية ، كما يقول النادم على الأمر إذا رأى سوء المغبة : لو شاء الله لأهلكني قبل هذا ، انتهى . فمعنى قوله : من قبل سؤال الرؤية ، وهذا بناء من الزمخشري على أن هذا الميقات هو ميقات المناجاة وطلب الرؤية ، وقد ذكرنا أن الأظهر خلافه ، وقال ابن عطية : لما رأى موسى ذلك أسف عليهم وعلم أن أمر بني إسرائيل يتشعب إن لم يأت بالقوم ، فجعل يستعطف ربه أن يا رب لو شئت أهلكتهم قبل هذه الحال وإياي لكان أخف علي ، وهذا وقت هلاكهم فيه مفسدة علي مؤذ لي ، انتهى ، ومفعول : شئت محذوف ، تقديره : لو شئت إهلاكنا ، وجواب لو أهلكتهم وأتى دون لام ، وهو فصيح لكنه باللام أكثر ، كما قال : لو شئت لاتخذت ، ولو شاء ربك لآمن ، ولا يحفظ جاء بغير لام في القرآن إلا هذا ، وقوله : أن لو نشاء أصبناهم و لو نشاء جعلناه أجاجا والمحذوف في : من قبل ، أي : من قبل الاختيار وأخذ الرجفة ، وذلك زمان إغضائهم على عبادة العجل ، أو عبادتهم هم إياه ، وقوله : ( وإياي ) ، أي : وقت قتلي القبطي : فأنت قد سترت وغفرت حينئذ فكيف الآن إذ رجوعي دونهم فساد لبني إسرائيل ؟ ! قال أكثره ابن عطية ، وعطف ( وإياي ) على الضمير المنصوب في أهلكتهم وعطف الضمير مما يوجب فصله ، وبدأ بضميرهم لأنهم الذين أخذتهم الرجفة فماتوا أو أغمي عليهم ، ولم يمت هو ولا أغمي عليه ولم يكتف بقوله : أهلكتهم من قبل حتى أشرك نفسه فيهم ، وإن كان لم يشركهم في مقتضى الإهلاك تسليما منه لمشيئة الله تعالى وقدرته ، وأنه لو شاء إهلاك العاصي والطائع لم يمنعه من ذلك مانع .

أتهلكنا بما فعل السفهاء منا قيل : هذا استفهام على سبيل الإدلاء بالحجة في صيغة استعطاف وتذلل ، والضمير المنصوب في أتهلكنا له وللسبعين ، وبما فعل السفهاء فيه الخلاف مرتبا على سبب أخذ الرجفة من طلب الرؤية ، أو عبادة العجل ، أو قولهم قتلت هارون ، أو تشططهم في الدعاء ، أو عبادتهم بأنفسهم العجل ، وقيل : الضمير في أتهلكنا له ولبني إسرائيل ، وبما فعل السفهاء ، أي بالتفرق والكفر والعصيان يكون هلاكهم ، وقال الزمخشري : يعني نفسه وإياهم ; لأنه إنما طلب الرؤية زجرا للسفهاء وهم طلبوها سفها وجهلا ، والذي يظهر لي أنه استفهام استعلام أتبع إهلاك المختارين وهم خير بني إسرائيل بما فعل غيرهم ; إذ من الجائز في العقل ذلك ، ألا ترى إلى قوله تعالى : واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة وقوله عليه السلام ، وقد قيل له : أنهلك وفينا الصالحون ؟ ! قال : نعم إذا كثر الخبث . وكما ورد أن قوما يخسف بهم ، قيل : وفيهم الصالحون ؟ ! فقيل : يبعثون على نياتهم ، أو كلاما هذا معناه ، وروي عن علي أنهم أحيوا وجعلوا أنبياء كلهم .

إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أي إن فتنتهم إلا فتنتك ، والضمير في هي يفسره سياق الكلام ، أي أنت هو الذي فتنتهم ، قالت فرقة : لما أعلمه الله أن السبعين عبدوا العجل تعجب ، وقال : إن هي إلا فتنتك ، وقيل : لما أعلم موسى بعبادة بني إسرائيل العجل [ ص: 401 ] وبصفته ، قال : يا رب ومن أخاره ، قال : أنا ، قال موسى : فأنت أضللتهم إن هي إلا فتنتك ، قال ابن عطية : ويحتمل أن يشير به إلى قولهم : أرنا الله جهرة إذ كانت فتنة من الله أوجبت الرجفة ، وفي هذه الآية رد على المعتزلة ، وقال الزمخشري : أي محنتك وبلاؤك حين كلمتني وسمعت كلامك ، فاستدلوا بالكلام على الرؤية استدلالا فاسدا حتى افتتنوا وضلوا ، تضل بها الجاهلين غير الثابتين في معرفتك ، وتهدي العالمين الثابتين بالقول الثابت ، وجعل ذلك إضلالا من الله تعالى وهدى منه ، لأن محنته إنما كانت سببا لأن ضلوا واهتدوا ، فكأنه أضلهم بها وهداهم على الاتساع في الكلام ، انتهى ، وهو على طريقة المعتزلة في نفيهم الإضلال عن الله تعالى .

أنت ولينا القائم بأمرنا : فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين . سأل الغفران له ولهم والرحمة ، لما كان قد اندرج قومه في قوله : أنت ولينا وفي سؤال المغفرة والرحمة له ولهم - وكان قومه أصحاب ذنوب - أكد استعطاف ربه تعالى في غفران تلك الذنوب ، فأكد ذلك ونبه بقوله : وأنت خير الغافرين ، ولما كان هو وأخوه هارون عليه السلام من المعصومين من الذنوب ، فحين سأل المغفرة له ولأخيه وسأل الرحمة لم يؤكد الرحمة بل قال : وأنت أرحم الراحمين ، فنبه على أنه تعالى أرحم الراحمين ، ألا ترى إلى قوله : ورحمتي وسعت كل شيء وكان تعالى خير الغافرين لأن غيره يتجاوز عن الذنب طلبا للثناء أو الثواب ، أو دفعا للصفة الخسيسة عن القلب ، وهي صفة الحقد ، والباري سبحانه وتعالى منزه عن أن يكون غفرانه لشيء من ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية