الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الباب الثاني .

في العلم المحمود والمذموم وأقسامهما وأحكامهما .

وفيه بيان ما هو فرض عين وما هو فرض كفاية ، وبيان أن موقع الكلام والفقه من علم الدين إلى أي حد هو ، وتفضيل علم الآخرة .

بيان العلم الذي هو فرض عين .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " طلب العلم فريضة على كل مسلم " وقال أيضا صلى الله عليه وسلم : " اطلبوا العلم ولو بالصين " واختلف الناس في العلم الذي هو فرض على كل مسلم فتفرقوا ، فيه أكثر من عشرين فرقة ولا نطيل بنقل التفصيل ، ولكن حاصله أن كل فريق نزل الوجوب على العلم الذي هو بصدده فقال المتكلمون : هو علم الكلام ؛ إذ به يدرك التوحيد ، ويعلم به ذات الله سبحانه وصفاته وقال الفقهاء : هو علم الفقه ؛ إذ به تعرف العبادات والحلال والحرام ، وما يحرم من المعاملات وما يحل ، وعنوا به ما يحتاج إليه الآحاد دون الوقائع النادرة وقال المفسرون والمحدثون : هو علم الكتاب والسنة ؛ إذ بهما يتوصل إلى العلوم كلها .

وقال المتصوفة : المراد به هذا العلم فقال بعضهم : هو علم العبد بحاله ومقامه من الله عز وجل .

وقال بعضهم : هو العلم بالإخلاص وآفات ، النفوس وتمييز لمة الملك من لمة الشيطان .

وقال بعضهم : هو علم الباطن وذلك يجب على أقوام مخصوصين هم أهل ذلك وصرفوا اللفظ عن عمومه .

التالي السابق


(الباب الثاني)

(في) بيان (العلم المحمود والمذموم وأقسامهما وأحكامهما، وفيه بيان ما هو فرض عين وما هو فرض كفاية، وبيان أن موقع الفقه والكلام من علم الدين إلى أي حد هو، وتفضيل علم الآخرة) على علم الدنيا .

(بيان العلم) وفي نسخة: في العلم (الذي هو فرض عين) على كل مكلف (قال صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم") تقدم الكلام عليه في الباب الأول مفصلا .

قال السخاوي: ويوجد في بعض الكتب زيادة: "ومسلمة" وليس لها أصل في الرواية .

(وقال صلى الله عليه وسلم: "اطلبوا العلم ولو بالصين") وهذا أيضا قد تقدم الكلام عليه مفصلا في الباب الأول، وذكرنا أن بعض الروايات هما حديث واحد، ولفظه: "اطلبوا العلم ولو بالصين، فإن طلب العلم فريضة" وهكذا أورده صاحب القوت، ووضع عليه الباب، والمصنف تابع له في سياقه في غالب ما أورده في هذا الباب، والحديث وإن كان إسناده ضعيفا فالمعنى صحيح؛ فإن الإيمان فرض على كل أحد، وهو ماهية مركبة من علم وعمل، فلا يتصور وجود الإيمان إلا بالعلم والعمل، ثم شرائع الإسلام واجبة على كل مسلم، ولا يمكن أداؤها إلا بعد معرفتها، والعلم بها، والله أخرج عباده من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا، فطلب العلم فريضة على كل مسلم، وهل تمكن عبادة الله التي هي حقه على العباد كلهم إلا بالعلم؟! وهل ينال العلم إلا بطلبه؟!

(واختلف الناس في العلم الذي هو فرض على كل مسلم، وتحزبوا فيه أكثر من عشرين فرقة) أي صاروا أحزابا، وقال ابن عبد البر في بيان العلم: للفظ العلم إطلاقات متباينة، ويترتب على ذلك اختلاف الحد والحكم، كلفظ العالم والعلماء، ومن هنا اختلفوا في فهم هذا الحديث وتجاذبوا معناه. اهـ .

(ولا نطول الكلام بنقل التفصيل في ذلك، ولكن حاصله) ومحمله (أن كل فريق نزل الوجوب على العلم الذي هو بصدده) وفي تحصيله (فقال المتكلمون: هو علم الكلام؛ إذ به يدرك التوحيد، ويعلم ذات الله وصفاته) وعزاه صاحب القوت إلى بعض السلف، ونصه: وقال بعض السلف: إنما معناه طلب علم ما لا يسع جهله من علم التوحيد، وأصول الأمر والنهي، والفرق بين الحلال والحرام؛ إذ لا غياية لسائر العلوم بعد ذلك، وكلها يقع عليها اسم علم من حيث هي معلومات. اهـ .

وإلى هذا أشار البيهقي في المدخل فقال: أراد -والله أعلم- العام الذي لا يسع العاقل البالغ جهله. اهـ .

قال صاحب القوت: ثم اختلف القائلون بأنه علم التوحيد في كيفية الطلب وماهية الإضافة، فمنهم من قال: من طريق الاستدلال والاعتبار، ومنهم من قال: من طريق البحث والنظر، ومنهم من قال: من طريق التوقيف والأثر، وقالت طائفة من هؤلاء: إنما أراد طلب علم الشبهات المشكلات إذا سمعها العبد وابتلي بها، وقد كان يسعه ترك الطلب إذا كان غافلا عنها على أصل التسليم، ومعتقد جميع المسلمين، لا يقع في وهمه ولا يحيك [ ص: 130 ] في صدره شيء من الشبهات، فيسعه ترك البحث، فإذا وقع في سمعه شيء من ذلك، ووقر في قلبه ولم يكن عنده تعليل ذلك وقطعه، ومعرفة تميز حقه من باطله لم يحل له أن يسكت عليه؛ لئلا يعتقد باطلا، أو ينفي حقا، فافترض عليه طلب علم ذلك من العلماء به، فيستكشفه حتى يكون على اليقين من أمره، فيعتقد من ذلك الحق وينفي الباطل، ولا يقعد عن الطلب؛ ليكون مقيما على شبهة، فيتبع الهوى، أو يكون شاكا في الدين فيعدل عن طريق المؤمنين، أو يعتقد بدعة فيخرج بذلك من السنة ومذهب الجماعة، وهو لا يعلم؛ ولهذا المعنى كان الصديق يقول: "اللهم أرنا الحق حقا فنتبعه، وأرنا الباطل باطلا فنجتنبه" وهذا مذهب أبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي، وداود بن علي، والحسين الكرابيسي، والحارث بن أسد المحاسبي، ومن تبعهم من المتكلمين. اهـ .

(وقال الفقهاء: هو علم الفقه؛ إذ به يعرف العبادات والحلال والحرام، وما يحرم من المعاملات وما يحل، وعنوا به) أي أرادوا بذلك (ما يحتاج إليه الآحاد) من المسلمين (دون الوقائع النادرة) الغريبة، وهذا القول مشتمل على ثلاثة أقوال من حيث التفصيل:

فأما معرفة العبادات: وهي أحكام الطهارة والصلاة والحج والزكاة وتوابعها وشروطها فهو قول مستقل لعامة الفقهاء، وذكر البيهقي في المدخل عن عبد الملك بن حبيب أنه سمع عبد الملك بن الماجشون قال: سمعت مالكا، وسئل عن طلب العلم أواجب؟ قال: أما معرفة شرائعه وسننه وفقهه الظاهر فواجب، وغير ذلك من ضعف عنه فلا شيء عليه. اهـ .

وإن أريد بمعرفة الحلال والحرام ما يحل ويحرم في عباداته فهو داخل في القول الأول، وإلا فهو قول مستقل لبعض صوفية الفقهاء، كما سيأتي بيانه .

وأما معرفة ما يحل ويحرم من المعاملات فهو قول فقهاء الكوفة خاصة، قال صاحب القوت: وقال بعض فقهاء الكوفة: معناه طلب علم البيع والشراء والنكاح والطلاق، وإذا أراد الدخول فيه افترض عليه مع دخوله في ذلك طلب علمه؛ لقول عمر -رضي الله عنه-: لا يتجر في سوقنا هذا إلا من تفقه، وإلا أكل الربا شاء أم أبى، وكما قيل: تفقه ثم اتجر، ومال إلى هذا سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابهما .

(وقال المفسرون المحدثون: هو علم الكتاب والسنة؛ إذ بهما يتوصل إلى العلوم كلها) هما قولان، فالمفسرون قالوا: هو علم الكتاب، وقال المحدثون: هو علم السنة، ولما كانت العلة متحدة جمعهما في قول واحد .

(وقال المتصوفة: المراد به هذا العلم) أي: علم التصوف، ثم اختلفوا على أقوال (قال بعضهم: هو علم العبد بحاله وقوامه من الله تعالى) يعني: حال العبد من مقامه الذي أقيم فيه، بأن يعلم أحدهم حاله بينه وبين الله تعالى في دنياه وآخرته، فيقوم بأحكام الله في ذلك، وهذا القول عزاه صاحب القوت إلى سهل التستري.

(وقال بعضهم: هو العلم بالإخلاص، و) معرفة (آفات النفوس) ووساوسها، ومعرفة مكايد العدو وخدعه ومكره وغروره، وما يصلح الأعمال ويفسدها، فريضة كله من حيث كان الإخلاص بالأعمال فريضة، ومن حيث علم بعداوة إبليس ثم أمر بمعاداته، وهذا القول ذهب إليه عبد الرحيم بن يحيى الأرموي الشهير بالأسود من الشاميين ومن تابعه .

وقال بعض البصريين في معناه: طلب علم القلوب ومعرفة الخواطر وتفصيلها فريضة؛ لأنها رسل الله تعالى إلى العبد، ووساوس العدو والنفس، فيستحب إليه تنفيذها منه، ومنها ابتلاء من الله للعبد، واختبار تقتضيه مجاهدة نفسه في نفيها، ولأنها أول النية التي أول كل عمل، وعنها تظهر الأفعال، وعلى قدرها تضاعف الأعمال، فيحتاج إلى (تمييز لمة الملك من لمة الشيطان) وخاطر الروح ووسوسة النفس من علم اليقين وقوادح العقل؛ ليميز بذلك الأحكام، وهذا عند هؤلاء فريضة، وهو مذهب مالك بن دينار وفرقد السبخي وعبد الواحد بن زيد وأتباعهم من نساك البصرة، وقد كان أستاذهم الحسن البصري يتكلم في ذلك، وعنه حملوا علم القلوب .

(وقال بعضهم: هو) طلب (علم الباطن) فريضة على أهله، قالوا: (وذلك يجب على أقوام مخصوصين) من أهل القلوب، فمن استعمل به واقتضى منه دون غيره من عوام المسلمين (هم أهل ذلك) العلم، ولأنه جاء في لفظ الحديث: "تعلموا اليقين" فمعناه: اطلبوا علم اليقين، وعلم اليقين لا يوجد إلا عند الموقنين، وهو من أعمال [ ص: 131 ] الموقنين المخصوصين في قلوب العارفين، وهو العلم النافع، الذي هو حال العبد عند الله تعالى، ومقامه من الله تعالى، كما شهد به الخبر الآخر من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "العلم علمان" فذكر: وعلم باطن في القلب، وهو العلم النافع، فهذا تفسير ما أجمل في غيره، وقال جندب: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتعلمنا الإيمان، ثم تعلمنا القرآن، فازددنا إيمانا، وسيأتي قوم يتعلمون القرآن قبل الإيمان، بمعنى: تعلمنا علم الإيمان، وهذا مذهب بعض نساك البصرة .

(وهؤلاء صرفوا اللفظ عن عمومه) حيث خصوه بما ذكر، وقد ظهر من سياق المصنف ذكر خمسة أقوال:

الأول: قول المتكلمين، والثاني: قول الفقهاء، والثالث: قول المفسرين والمحدثين، والرابع: قول الصوفية، ثم فصله إلى قولين، فصاروا خمسة، سوى القول الأخير الذي نقله عن أبي طالب المكي، وسيأتي بيانه، وسنذكر لك تلك الأقوال بأحوالها بمجموعها على التفصيل الغريب، ثم نتبعها بما ذكره أبو طالب، ولم يذكره المصنف، ثم ما ذكر غيره من العلماء .

فنقول: اختلف العلماء في تفسير هذا الحديث وفهم معناه على أقوال شتى، فمن متكلم يحمله على علم الكلام ويحتج لذلك بأنه العلم المتقدم رتبة؛ لأنه علم التوحيد الذي هو المبنى، والقائلون بهذا اختلفوا في كيفية الطلب كما تقدم، ويندرج في هذا القول قول آخر وهو مستقل عما قبله، إلا أن قائله من المتكلمين، هو طلب علم الشبهات والمشكلات من علم التوحيد، وقد تقدم أنه مذهب أبي نور ودواد الظاهري والكرابيسي والمحاسبي، ومن فقيه يحمله على علم الفقه مطلقا، قال ابن عبد البر: وذلك هو المتبادر من إطلاق العلم في علم الشرع .

وتندرج فيه ثلاثة أقوال، فمن قائل: هو علم العبادات بشروطها وفرائضها وسننها، وقد تقدمت الإشارة إليه من قول مالك، ومن قائل: هو معرفة الحلال من الحرام، واستدل عليه بحديث ابن مسعود: "طلب الحلال فريضة بعد فريضة" وبحديث أنس: "طلب الحلال واجب على كل مسلم" وبحديث ابن عباس وابن عمر: "طلب الحلال جهاد" ويروى: "إن من الذنوب ما لا يكفرها إلا الهم في طلب الحلال" وعند البيهقي في السنن والديلمي في المسند: "طلب كسب الحلال فريضة بعد الفريضة" أي: لأن طلب كسب الحلال أصل الورع، وأساس التقوى.

وروى النووي في بستانه، عن خلف بن تميم، قال: رأيت إبراهيم بن أدهم بالشام، فقلت: ما أقدمك؟ قال: لم أقدم لجهاد، ولا لرباط، ولكن لأشبع من خبز حلال، وهذا قول عباد أهل الشام، وإليه مال يوسف بن أسباط وحبيب بن حرب، ووهيب بن الورد، وإبراهيم بن أدهم، وآخرون .

ومن قائل: هو علم المعاملات، وهو قول أهل الكوفة كسفيان الثوري، وأبي حنيفة وأتباعهما، ومن مفسر يحلمه على علم التفسير، ومن محدث يحمله على علم الحديث، وقد ذكرت علة كل من ذلك .

ومن نحوي يحمله على علم العربية، ويقول: الشريعة إنما تتلقى من الكتاب والسنة، وقد قال تعالى: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فلا بد من إتقان علم البيان. ذكره ابن عبد البر .

ومن طبيب يحمله على علم الطب الذي يعرف به الصحة والمرض، ويقول: العلم علمان: علم الأبدان، وعلم الأديان، وعلم الأبدان مقدم على علم الأديان، ذكره بعضهم، وفيه نظر، وإيراده في فروض الكفايات أشبه، كما سيأتي .

ومن صوفي يقول: هو علم التصوف خاصة، وتندرج في هذا القول خمسة أقوال:

الأول: هو علم حال العبد من مقامه، وهو قول سهل التستري .

والثاني: هو طلب علم المعرفة وقيام العبد بحكم ساعته، وهو قول بعض العراقيين .

والثالث: هو طلب علم الإخلاص ومعرفة آفات النفوس، وهو قول عبد الرحيم الأسود، ومن تابعه من الشاميين، نقله أبو طالب في القوت، والسهروردي في عوارف المعارف .

والرابع: طلب علم القلوب ومعرفة الخواطر، وهو قول مالك بن دينار وفرقد السبخي، وعبد الواحد بن زيد وأتباعهم، نقله صاحب القوت والسهروردي .

والخامس: هو علم الباطن، نقله صاحب القوت عن نساك البصرة، وقال السهروردي في العوارف: هو ما يزداد به العبد يقينا، وهو الذي يكتسب بصحبة الأولياء، فهم وارثوا المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فهذه الأقوال الخمسة مندرجة في علم التصوف .

وقال بعض المتقدمين من علماء خراسان: [ ص: 132 ] هو أن يكون الرجل في منزله فيريد أن يعمل شيئا من أمر الدين، أو يخطر على قلبه مسألة لله تعالى فيها حكم وتعبد، وعلى العبد في ذلك اعتقاد أو عمل، فلا يسعه أن يسكت على ذلك، ولا يجوز أن يعمل فيه برأيه، ولا يحكم بهواه، فعليه أن يلبس نعليه، ويخرج فيسأل عن أعلم أهل بلده، فيسأله عن ذلك عند النازلة، فهذا فريضة .

وحكي هذا عن ابن المبارك، وبعض أصحاب الحديث، قاله أبو طالب، وروى البيهقي في المدخل بسنده إلى ابن المبارك أنه سئل عن تفسير هذا الحديث، فقال: ليس هو الذي يظنون، إنما طلب العلم فريضة أن يقع الرجل في شيء من أمر دينه، فيسأل عنه حتى يعلمه .

وروى ابن عبد البر في كتابه بيان العلم، عن ابن المبارك، بمثل ما تقدم .

وقال بعضهم: أراد به علم ما يطرأ للإنسان خاصة، ذكره البيهقي في المدخل، وهو قريب من قول ابن المبارك، ويروى عن أحمد بن محمد بن رشدين، قال: سمعت أحمد بن صالح، وسئل عن هذا الحديث فقال: معناه عندي: إذا قام به قوم سقط عن الباقين، مثل الجهاد .

ويقرب منه قول سفيان بن عيينة فيما رواه عنه أبو الفتح نصر بن المغيرة، قال: طلب العلم والجهاد فريضة على جماعتهم، ويجزئ فيه بعضهم عن بعض، وتلا هذه الآية: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة الآية .

ويقرب منهما أيضا قول من يقول: إنه فريضة على كل مسلم حتى يقوم من فيه الكفاية. .

ذكر هذه الأقوال الثلاثة البيهقي في المدخل، وأما الإمام مالك رحمه الله فقد اختلف عنه في تفسير هذا الحديث على ثلاثة أقوال:

الأول: نقله ابن وهب، قال: سئل مالك عن طلب العلم أهو فريضة على الناس؟ فقال: لا، ولكن يطلب منه المرء ما ينتفع به في دينه .

الثاني: رواه محمد بن معاوية الحضرمي قال: سئل مالك وأنا أسمع عن الحديث الذي يذكر فيه "طلب العلم فريضة على كل مسلم" فقال: ما أحسن طلب العلم، فأما فريضته فلا .

الثالث: قول ابن الماجشون قال: سمعت مالكا سئل عن طلب العلم أواجب هو؟ فقال: أما معرفة شرائعه وسننه وفقهه الظاهر فواجب، وهذا قد قدمنا ذكره، ويقرب من هذا الأخير قول إسحاق بن راهويه، فيما رواه عنه إسحاق بن منصور الكوسج قال: طلب العلم واجب، ولم يصح فيه الخبر، إلا أن معناه أنه يلزمه طلب علم ما يحتاج إليه من وضوئه وصلاته وزكاته إن كان له مال، وكذلك الحج وغيره .

ومنهم من قال: إن المراد به تعلم علم مكارم الأخلاق، أي: اسعوا إلى تحصيله حتى لو لم يبق إلا أهل الصين لوجب السفر إليهم، وليس في مكارم الأخلاق شيء يعادل الشفقة على المخلوقات على ما يليق بكل نوع، وهذا القول ذكره العلاء علي بن محمد الشيرازي في كتابه "سلم السلوك للرعايا والملوك" .

فتحصل مما ذكرناه نحو عشرين قولا أو أزيد غير القول الأخير، الذي نقله المصنف عن أبي طالب المكي، فسيأتي بيانه وشرحه .

قال المناوي: كل فرقة أقامت الأدلة على علمها، وكل لكل معارض، وبعض لبعض مناقض، وأجود ما قيل قول القاضي: هو العلم الذي ما لنا مندوحة عن تعلمه كمعرفة الصانع ونبوة رسله، وكيفية الصلاة ونحوها؛ فإن تعلمه فرض عين. اهـ .

وقال المصنف في كتابه المنهاج: العلم المفروض في الجملة ثلاثة: علم التوحيد، وعلم السر، وهو ما يتعلق بالقلب، وعلم الشريعة، والذي يتعين فرضه من علم التوحيد ما يعرف به أصول الدين، وهو أن تعلم أن لك إلها قادرا حيا مريدا متكلما سميعا بصيرا، لا شريك له، متصفا بصفات الكمال، منزها عن دلالات الحدوث، منفردا بالقدرة، وأن محمدا رسوله، الصادق فيما جاء به .

ومن علم السر: معرفة مواجبه ومناهيه، حتى يحصل لك الإخلاص، والنية، وسلامة العلم .

ومن علم الشريعة: كل ما وجب عليك معرفته لتؤديه، وما فوق ذلك من العلوم فرض كفاية. اهـ .

وقال ابن القيم في مفتاح دار السعادة: العلم الذي هو فرض عين لا يسع مسلما جهله أنواع:

النوع الأول: علم أصول الإيمان الخمسة، الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فإن من لم يؤمن بهذه الخمسة لم يدخل في باب الإيمان، ولا يستحق اسم المؤمن، قال الله تعالى: ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وقال: ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا ولما سأل جبريل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان؟ قال: "تؤمن بالله وملائكته واليوم الآخر وكتبه ورسله، قال: صدقت" فالإيمان: [ ص: 133 ] بهذه الأصول فرع معرفتها والعلم بها .

النوع الثاني: علم شرائع الإسلام، واللازم منها ما يخص العبد من فعلها، كعلم الوضوء والصلاة والصيام والحج والزكاة، وتوابعها وشروطها ومبطلاتها .

النوع الثالث: علم المحرمات الخمس، التي اتفقت عليها الرسل والشرائع والكتب الإلهية، وهي المذكورة في قوله تعالى: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون .

فهذه محرمات على كل أحد في كل حال على لسان كل رسول، لا تباح قط؛ ولهذا أتى فيها بإنما المفيدة للحصر مطلقا، وغيرها محرم في وقت مباح في غيره، كالميتة والدم ولحم الخنزير ونحوه، فهذه ليست محرمة على الإطلاق والدوام، فلم تدخل في التحريم المحصور المطلق .

النوع الرابع: علم أحكام المعاشرة والمعاملة التي تحصل بينه وبين الناس خصوصا وعموما، والواجب في هذا النوع يختلف باختلاف أحوال الناس ومنازلهم، فليس الواجب على الإمام مع رعيته كالواجب على الرجل مع أهله وجيرته، وليس الواجب على من نصب نفسه لأنواع التجارات من تعلم أحكام البياعات كالواجب على من لا يبيع ولا يشتري، إلا ما تدعو الحاجة إليه، وتفصيل هذه الجملة لا ينضبط بحد لاختلاف الناس في أسباب العلم الواجب، وذلك يرجع إلى ثلاثة أصول: اعتقاد وفعل وترك .

فالواجب في الاعتقاد: مطابقته للحق في نفسه، والواجب في العمل معرفة موافقة حركات العبد الظاهرة والباطنة الاختيارية للشرع أمرا وإباحة، والواجب في الترك معرفة موافقة الكف والسكون لمرضاة الله تعالى، وأن المطلوب منه إبقاء هذا الفعل على عدمه المستعمل، فلا يتحرك في طلبه أو كف النفس عن فعله على الطريقتين، وقد دخل في هذه الجملة علم حركات القلوب والأبدان. اهـ وهو نفيس .

وفي منية السالكين وبغية العارفين: قد اختلف العلماء في العلم الذي هو فريضة ولا يسع الإنسان جهله، وكثرت أقاويلهم في ذلك، وأقربها إلى المقصود من قال: هو علم الأوامر والنواهي، والمأمور ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه، والمأمورات والمنهيات منها ما هو لازم مستمر للعبد بحكم الإسلام، ومنها ما يتوجه الأمر فيه والنهي عنه عند وجود الحادثة، فما هو لازم مستمر لزومه متوجه بحكم الإسلام علمه واجب من ضرورة الإسلام، وما يتجدد بالحوادث، ويتوجه الأمر والنهي عنه علمه عند تجدده فرض، لا يسع مسلما على الإطلاق أن يجهله .

وينحصر ذلك في ثلاثة أنواع من العلوم: علم بالأوامر الشرعية، وعلم بالنواهي الشرعية، وعلم بالمباحات الدنياوية، ومدارك الحواس الضرورية، والضرورة العقلية، وتفصيل ذلك مستقصى في كتب الفقه والأصول، ولكن ننبهك بلمحة يسيرة تقف بالإشارة منها على مجمله وتفصيله:

أما علم الأوامر: فهو علم الفرائض والسنن والفضائل، وأما علم النهي: فهو علم الحلال والحرام والكراهة والتنزيه، وأما علم المباحات: فهو العلم بالدنيا وأهلها وكيفية آداب المخالطة، واكتساب المعيشة، وهذه الأقسام الثلاثة تعلم من طريق الشرع والسمع .

وأما مدارك الحواس والعلوم الضرورية فقد اشترك فيها الحيوان العاقل، فلا يحتاج إلى اكتساب، وإنما المراد هنا الكلام على الشرعية، فقد عم العلم الظواهر كلها، فلا يجوز لأحد أن يعمل عملا إلا يعلم بعلم الأمر الظاهر، وهو موجود كله، مضبوط في كتب الفقه، كالعلم بالاستنجاء والطهارة والصلاة، وما يتعلق بها، واختلاف أنواعها، والزكاة وأنواعها ومصارفها، وعلى من تجب، والصوم والجهاد والحج، وأنواعها، وغير ذلك من الأحكام المأمور بها .

وأما علم النهي: فالعلم بالمحرمات كلها، على اختلاف أنواعها، كالعلم بما يفسد الطهارة والصلاة والصوم والحج وغير ذلك، وكالعلم بالأطعمة والأشربة المحرمة وأبواب الربا وغير ذلك، وكالعلم بالمكروه كله، وذلك كله موجود في كتب الفقه .

وأما علم المباح وأمور الدنيا: فكالعلم بالصيد، وآداب الأكل والشرب والجماع والمخالطة، ومعرفة الدنيا وأسبابها، وهذا كله موجود في الكتب، محررا، فإذا أراد العبد أن لا يتحرك بحركة إلا بعلم وجد ذلك في العلم؛ لأن العلم واسع جدا .

مثال ذلك: إذا أراد أن يسبح أو يمشي في السوق، فيقول: هل للسباحة والمشي في السوق أصل في العلم أم لا؟ فيجد ذلك منصوصا عليه، وكذلك المزح واللعب [ ص: 134 ] وغير ذلك، لكن مع سعة العلم قد ترك العمل به، وأوثر العمل بالجهل، فعليك بالعلم في جميع الحركات والسكنات، وهو العصمة في مواطن المهلكات، وليكن سبيلك في العلوم اختيار أشرفها منزلة، والميل إلى أنفعها ثمرة للدين والدنيا، فتجعل نظرك في نيل ذلك الفرع من العلم مما لا بد لك منه، ولا غنى لك عنه، وتجعله مما ترضى أن ينسب إليك وتنسب إليه، وتنزل غيرها من العلوم في نفسك على قدر مراتبها، ومواقع أقدارها من دينك ومنفعة نفسك في دنياك وآخرتك، الأوكد فالأوكد، والأنفع فالأنفع. وبالله التوفيق .




الخدمات العلمية