الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السابعة : ذهب قوم من علماء الصحابة إلى أنه يجب على المريض والمسافر أن يفطرا ويصوما عدة من أيام أخر ، وهو قول ابن عباس وابن عمر ، ونقل الخطابي في إعلام التنزيل عن ابن عمر أنه قال : لو صام في السفر قضى في الحضر ، وهذا اختيار داود بن علي الأصفهاني ، وذهب أكثر الفقهاء إلى أن الإفطار رخصة فإن شاء أفطر وإن شاء صام .

                                                                                                                                                                                                                                            حجة الأولين من القرآن والخبر ، أما القرآن فمن وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنا إن قرأنا " عدة " بالنصب كان التقدير : فليصم عدة من أيام أخر وهذا للإيجاب ، ولو أنا قرأنا بالرفع كان التقدير : فعليه عدة من أيام ، وكلمة " على " للوجوب ، فثبت أن ظاهر القرآن يقتضي إيجاب صوم أيام أخر ، فوجب أن يكون فطر هذه الأيام واجبا ضرورة أنه لا قائل بالجمع .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثانية : أنه تعالى أعاد فيما بعد ذلك هذه الآية ، ثم قال عقيبها : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) ، [ البقرة : 185 ] ولا بد وأن يكون هذا اليسر والعسر شيئا تقدم ذكرهما ، وليس هناك يسر إلا أنه أذن للمريض والمسافر في الفطر ، وليس هناك عسر إلا كونهما صائمين ، فكان قوله : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) معناه يريد منكم الإفطار ولا يريد منكم الصوم فذلك تقرير قولنا ، وأما الخبر فاثنان :

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 66 ] الأول : قوله عليه السلام : " ليس من البر الصيام في السفر " ، لا يقال : هذا الخبر وارد عن سبب خاص ، وهو ما روي أنه عليه الصلاة والسلام مر على رجل جالس تحت مظلة ، فسأل عنه فقيل : هذا صائم أجهده العطش ، فقال : " ليس من البر الصيام في السفر " لأنا نقول : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : قوله عليه الصلاة والسلام : " الصائم في السفر كالمفطر في الحضر " .

                                                                                                                                                                                                                                            أما حجة الجمهور : فهي أن في الآية إضمارا ؛ لأن التقدير : فأفطر فعدة من أيام أخر وتمام تقرير هذا الكلام أن الإضمار في كلام الله جائز في الجملة ، وقد دل الدليل على وقوعه ههنا ، أما بيان الجواز فكما في قوله تعالى : ( فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت ) ، [ البقرة : 60 ] ، والتقدير فضرب فانفجرت ، وكذلك قوله تعالى : ( ولا تحلقوا رءوسكم ) [ البقرة : 196 ] إلى قوله : ( أو به أذى من رأسه ففدية ) ، [ البقرة : 96 ] ، أي فحلق فعليه فدية فثبت أن الإضمار جائز ، أما إن الدليل دل على وقوعه ففي تقريره وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قال القفال : قوله تعالى : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) [ البقرة : 185 ] يدل على وجوب الصوم ، ولقائل أن يقول هذا ضعيف وبيانه من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنا إذا أجرينا ظاهر قوله تعالى : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) على العموم لزمنا الإضمار في قوله تعالى : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) ، وقد بينا في أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين التخصيص وبين الإضمار كان تحمل التخصيص أولى .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني وهو أن ظاهر قوله تعالى : ( فليصمه ) يقتضي الوجوب عينا ، ثم إن هذا الوجوب منتف في حق المريض والمسافر ، فهذه الآية مخصوصة في حقهما على جميع التقديرات ، سواء أجرينا قوله تعالى فعليه عدة من أيام أخر على ظاهره أو لم نفعل ذلك ، وإذا كان كذلك وجب إجراء هذه الآية على ظاهرها من غير إضمار .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : ما ذكره الواحدي في كتاب البسيط ، فقال : القضاء إنما يجب بالإفطار لا بالمرض والسفر ، فلما أوجب الله القضاء ، والقضاء مسبوق بالفطر ، دل على أنه لا بد من إضمار الإفطار ، وهذا في غاية السقوط ؛ لأن الله تعالى لم يقل : فعليه قضاء ما مضى ، بل قال : فعليه صوم عدة من أيام أخر ، وإيجاب الصوم عليه في أيام أخر لا يستدعي أن يكون مسبوقا بالإفطار .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثالث : ما روى أبو داود في سننه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن حمزة الأسلمي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله هل أصوم على السفر ؟ فقال - عليه الصلاة والسلام : " صم إن شئت وأفطر إن شئت " ، ولقائل أن يقول : هذا يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد ؛ لأن ظاهر القرآن يقتضي وجوب صوم سائر الأيام ، فرفع هذا الخبر غير جائز إذا ثبت ضعف هذه الوجوه ، فالاعتماد في إثبات المذهب على قوله تعالى بعد هذه الآية : ( وأن تصوموا خير لكم ) ، وسيأتي بيان وجه الاستدلال إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية