الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : أما الرفث فقد فسرناه في قوله : ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) [البقرة : 187] والمراد : الجماع ، وقال الحسن : المراد منه كل ما يتعلق بالجماع ، فالرفث باللسان ذكر المجامعة وما يتعلق بها ، والرفث باليد اللمس والغمز ، والرفث بالفرج الجماع ، وهؤلاء قالوا : التلفظ به في غيبة النساء لا يكون رفثا ، واحتجوا بأن ابن عباس كان يحدو بعيره وهو محرم ويقول :


                                                                                                                                                                                                                                            وهن يمشين بنا هميسا إن تصدق الطير ننك لميسا



                                                                                                                                                                                                                                            فقال له أبو العالية : أترفث وأنت محرم ؟ قال : إنما الرفث ما قيل عند النساء ، وقال آخرون : الرفث هو قول الخنا والفحش ، واحتج هؤلاء بالخبر واللغة ؛ أما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام : إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل ، فإن امرؤ شاتمه فليقل : إني صائم ومعلوم أن الرفث ههنا لا يحتمل إلا قول الخنا والفحش ، وأما اللغة فهو أنه روي عن أبي عبيد أنه قال : الرفث الإفحاش في المنطق ، يقال : أرفث الرجل إرفاثا ، وقال أبو عبيدة : الرفث اللغو من الكلام .

                                                                                                                                                                                                                                            أما الفسوق فاعلم أن الفسق والفسوق واحد وهما مصدران لفسق يفسق ، وقد ذكرنا فيما قبل أن الفسوق هو الخروج عن الطاعة ، واختلف المفسرون فكثير من المحققين حملوه على كل المعاصي ، قالوا : لأن اللفظ صالح للكل ومتناول له ، والنهي عن الشيء يوجب الانتهاء عن جميع أنواعه ، فحمل اللفظ على بعض أنواع الفسوق تحكم من غير دليل ، وهذا متأكد بقوله تعالى : ( ففسق عن أمر ربه ) [الكهف : 50] وبقوله : ( وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان ) [الحجرات : 7] .

                                                                                                                                                                                                                                            وذهب بعضهم إلى أن المراد منه بعض الأنواع ثم ذكروا وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : المراد منه السباب ، واحتجوا عليه بالقرآن والخبر ، أما القرآن فقوله تعالى : ( ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ) [الحجرات : 11] وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام : سباب المسلم [ ص: 141 ] فسوق وقتاله كفر

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : المراد منه الإيذاء والإفحاش ، قال تعالى : ( ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم ) [البقرة : 282] .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : قال ابن زيد : هو الذبح للأصنام فإنهم كانوا في حجهم يذبحون لأجل الحج ، ولأجل الأصنام ، وقال تعالى : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) [الأنعام : 121] ؛ وقوله : ( أو فسقا أهل لغير الله به ) [الأنعام : 145] .

                                                                                                                                                                                                                                            والرابع : قال ابن عمر : إنه العاصي في قتل الصيد وغيره مما يمنع الإحرام منه .

                                                                                                                                                                                                                                            والخامس : أن الرفث هو الجماع ومقدماته مع الحليلة ، والفسوق هو الجماع ومقدماته على سبيل الزنا .

                                                                                                                                                                                                                                            والسادس : قال محمد بن الطبري : الفسوق هو العزم على الحج إذا لم يعزم على ترك محظوراته .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الجدال فهو فعال من المجادلة ، وأصله من الجدل الذي من القتل ، يقال : زمام مجدول وجديل ، أي مفتول ، والجديل اسم الزمام لأنه لا يكون إلا مفتولا ، وسميت المخاصمة مجادلة لأن كل واحد من الخصمين يروم أن يفتل صاحبه عن رأيه ، وذكر المفسرون وجوها في هذا الجدال .

                                                                                                                                                                                                                                            فالأول : قال الحسن : هو الجدال الذي يخاف منه الخروج إلى السباب والتكذيب والتجهيل .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : قال محمد بن كعب القرظي : إن قريشا كانوا إذا اجتمعوا بمنى ، قال بعضهم : حجنا أتم ، وقال آخرون : بل حجنا أتم ، فنهاهم الله تعالى عن ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : قال مالك في "الموطأ" الجدال في الحج أن قريشا كانوا يقفون عند المشعر الحرام في المزدلفة بقزح ، وكان غيرهم يقفون بعرفات وكانوا يتجادلون يقول هؤلاء : نحن أصوب ، ويقول هؤلاء : نحن أصوب ، قال الله تعالى : ( لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون ) [الحج : 67] قال مالك : هذا هو الجدال فيما يروى والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            والرابع : قال القاسم بن محمد : الجدال في الحج أن يقول بعضهم : الحج اليوم ، وآخرون يقولون : بل غدا ، وذلك أنهم أمروا أن يجعلوا حساب الشهور على رؤية الأهلة ، وآخرون كانوا يجعلونه على العدد فبهذا السبب كانوا يختلفون ، فبعضهم يقول : هذا اليوم يوم العيد . وبعضهم يقول : بل غدا ، فالله تعالى نهاهم عن ذلك ، فكأنه قيل لهم : قد بينا لكم أن الأهلة مواقيت للناس والحج ، فاستقيموا على ذلك ولا تجادلوا فيه من غير هذه الجهة .

                                                                                                                                                                                                                                            الخامس : قال القفال رحمه الله تعالى : يدخل في هذا النهي ما جادلوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة ؛ فشق عليهم ذلك وقالوا : نروح إلى منى ومذاكيرنا تقطر منيا ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ، ولجعلتها عمرة وتركوا الجدال حينئذ .

                                                                                                                                                                                                                                            السادس : قال عبد الرحمن بن زيد : جدالهم في الحج بسبب اختلافهم في أيهم المصيب في الحج لوقت إبراهيم عليه الصلاة والسلام .

                                                                                                                                                                                                                                            السابع : أنهم كانوا مختلفين في السنين ، فقيل لهم : لا جدال في الحج ، فإن الزمان استدار وعاد إلى ما كان عليه الحج في وقت إبراهيم عليه السلام ، وهو المراد بقوله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع : ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض فهذا مجموع ما قاله المفسرون في هذا الباب .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 142 ] وذكر القاضي كلاما حسنا في هذا الموضع ، فقال : قوله تعالى : ( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) يحتمل أن يكون خبرا وأن يكون نهيا كقوله : ( لا ريب فيه ) [آل عمران : 9] أي لا ترتابوا فيه ، وظاهر اللفظ للخبر ، فإذا حملناه على الخبر كان معناه أن الحج لا يثبت مع واحدة من هذه الخلال ، بل يفسد ؛ لأنه كالضد لها ، وهي مانعة من صحته ، وعلى هذا الوجه لا يستقيم المعنى ، إلا أن يراد بالرفث الجماع المفسد للحج ، ويحمل الفسوق على الزنا ؛ لأنه يفسد الحج ، ويحمل الجدال على الشك في الحج ووجوبه ؛ لأن ذلك يكون كفرا فلا يصح معه الحج ، وإنما حملنا هذه الألفاظ الثلاثة على هذه المعاني حتى يصح خبر الله بأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج ، فإن قيل : أليس أن مع هذه الأشياء يصير الحج فاسدا ، ويجب على صاحبه المضي فيه ، وإذا كان الحج باقيا معها لم يصدق الخبر بأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج ، قلنا : المراد من الآية حصول المضادة بين هذه الأشياء وبين الحجة التي أمر الله تعالى بها ابتداء ، وتلك الحجة الصحيحة لا تبقى مع هذه الأشياء بدليل أنه يجب قضاؤها ، والحجة الفاسدة التي يجب عليه المضي فيها شيء آخر سوى تلك الحجة التي أمر الله تعالى بها ابتداء ، وأما الجدال الحاصل بسبب الشك في وجوب الحج فظاهر أنه لا يبقى معه عمل الحج ؛ لأن ذلك كفر ، وعمل الحج مشروط بالإسلام ، فثبت أنا إذا حملنا اللفظ على الخبر وجب حمل الرفث والفسوق والجدال على ما ذكرناه ، أما إذا حملناه على النهي وهو في الحقيقة عدول عن ظاهر اللفظ ، فقد يصح أن يراد بالرفث الجماع ومقدماته وقول الفحش ، وأن يراد بالفسوق جميع أنواعه ، وبالجدال جميع أنواعه ؛ لأن اللفظ مطلق ومتناول لكل هذه الأقسام ، فيكون النهي عنها نهيا عن جميع أقسامها ، وعلى هذا الوجه تكون هذه الآية كالحث على الأخلاق الجميلة ، والتمسك بالآداب الحسنة ، والاحتراز عما يحبط ثواب الطاعات .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : الحكمة في أن الله تعالى ذكر هذه الألفاظ الثلاثة لا أزيد ولا أنقص ، وهو قوله : ( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) هي أنه قد ثبت في العلوم العقلية أن الإنسان فيه قوى أربعة : قوة شهوانية بهيمية ، وقوة غضبية سبعية ، وقوة وهمية شيطانية ، وقوة عقلية ملكية ، والمقصود من جميع العبادات قهر القوى الثلاثة ، أعني الشهوانية ، والغضبية ، والوهمية ، فقوله : ( فلا رفث ) إشارة إلى قهر القوة الشهوانية ، وقوله : ( ولا فسوق ) إشارة إلى قهر القوة الغضبية التي توجب التمرد والغضب ، وقوله : ( ولا جدال ) إشارة إلى القوة الوهمية التي تحمل الإنسان على الجدال في ذات الله ، وصفاته ، وأفعاله ، وأحكامه ، وأسمائه ، وهي الباعثة للإنسان على منازعة الناس ومماراتهم ، والمخاصمة معهم في كل شيء ، فلما كان منشأ الشر محصورا في هذه الأمور الثلاثة لا جرم قال : ( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) أي فمن قصد معرفة الله ومحبته والاطلاع على نور جلاله ، والانخراط في سلك الخواص من عباده ، فلا يكون فيه هذه الأمور ، وهذه أسرار نفيسة هي المقصد الأقصى من هذه الآيات ، فلا ينبغي أن يكون العاقل غافلا عنها ، ومن الله التوفيق في كل الأمور .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية