الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1537 ص: وكان من الحجة لهم فيما احتج به عليهم الفريق الأول: أن قول عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: "إن سنة الصلاة ... " فذكر ما في الحديث، لا يدل ذلك أنه عن النبي - عليه السلام -، قد يجوز أن يكون رأى ذلك، أو أخذه ممن بعد رسول الله - عليه السلام -، وقد قال رسول الله - عليه السلام -: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي" وقال سعيد بن المسيب -لما سأله ربيعة عن أروش أصابع المرأة-: إنها السنة يا ابن أخي". ولم يكن مخرج ذلك إلا من زيد بن ثابت ، - رضي الله عنه -، فسمى سعيد قول زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: سنة، فكذلك يحتمل أن يكون عبد الله بن عمر سمى مثل ذلك أيضا سنة، وإن لم يكن عنده في ذلك عن النبي - عليه السلام - شيء.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية في الذي احتج به عليهم الفريق الأول، وهم أهل المقالة الأولى: حاصله أن هذا جواب عما احتج به أهل المقالة الأولى من قول عبد الله بن عمر: "إنما سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى وتثني اليسرى".

                                                بيانه: أن هذا القول من ابن عمر - رضي الله عنهما - لا يدل على أن المراد منه سنة النبي - عليه السلام -; لأنه يحتمل أن يكون عبد الله رأى ذلك برأيه واجتهاده فجعله سنة له، أو أخذه عن [ ص: 426 ] أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - بعد النبي - عليه السلام -، فإذا كان كلامه محتملا لما ذكرنا، لا تقوم به الحجة، ولا يتم به الاستدلال.

                                                وقوله: "وقد قال رسول الله - عليه السلام - ... إلى آخره" يؤكد ما ذكره من وجود هذا الاحتمال.

                                                بيان ذلك: أن السنة لفظ مشترك بين سنة الرسول - عليه السلام - وسنة غيره من الصحابة - رضي الله عنهم -، والدليل عليه قوله - عليه السلام -: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي" حيث أثبت للخلفاء سنة.

                                                وهذا الحديث الذي أخرجه الطحاوي معلقا قد أخرجه أبو داود مطولا: في باب "من دعا إلى السنة" وقال: ثنا أحمد بن حنبل، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: ثنا ثور بن يزيد، قال: حدثني خالد بن معدان، قال: حدثني عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر قالا: "أتينا العرباض بن سارية، وهو ممن نزل فيه ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه فسلمنا وقلنا: أتيناك زائرين وعائدين ومقتبسين، فقال العرباض: صلي بنا رسول الله - عليه السلام - ذات يوم، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله ، كأن هذه موعظة مودع، فما تعهد إلينا، فقال: "أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور; فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة".

                                                وأخرجه الترمذي ، وابن ماجه أيضا.

                                                [ ص: 427 ] قوله: "وقال سعيد بن المسيب ... إلى آخره" دليل على أن السنة تطلق على سنة غير الخلفاء الراشدين أيضا من الصحابة - رضي الله عنهم -، والخلفاء الراشدون هم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، والخلافة تمت بهم، ثم صار ملكا وسيفا وحربا، وقد استوفيت الكلام فيه في باب "المسح على الخفين" فإن الطحاوي أخرج هذا الحديث هناك مسندا مختصرا، وكذلك ذكر هناك قول سعيد بن المسيب لربيعة في أروش أصابع المرأة: "يا ابن أخي، إنها السنة".

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" : ثنا وكيع، قال: ثنا سفيان ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، قال: "قلت لسعيد بن المسيب: كم في هذه من المرأة؟ يعني: الخنصر، فقال: عشر من الإبل، قال: قلت: في هذه -يعني الخنصر والتي تليها- قال: عشرون قلت: فهؤلاء -يعني الثلاثة- قال: ثلاثون، قال: قلت: ففي هؤلاء -وأومأ إلى الأربع- قال: عشرون قال: قلت: حين آلمت جراحها وعظمت مصيبتها كان الأقل لأرشها، قال: أعراقي أنت؟! قال: قلت: عالم مثبت، أو جاهل متعلم، قال: يا ابن أخي، السنة".

                                                قوله: "ولم يكن مخرج ذلك إلا من زيد بن ثابت - رضي الله عنه -" أي مخرج ما قاله سعيد بن المسيب في أروش أصابع المرأة، من زيد - رضي الله عنه -.

                                                وذلك ما رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" : ثنا وكيع، قال: ثنا زكرياء وابن أبي ليلى ، عن الشعبي قال: "كان علي - رضي الله عنه - يقول: دية المرأة في الخطأ على النصف من دية الرجل فيما دق وجل، وكان ابن مسعود - رضي الله عنه - يقول: دية المرأة في الخطأ على النصف من دية الرجل إلا السن والموضحة، فهما فيه سواء، وكان زيد بن ثابت - رضي الله عنه - يقول: دية المرأة في الخطأ مثل دية الرجل حتى يبلغ ثلث الدية، فما زاد فهي على النصف". انتهى.

                                                [ ص: 428 ] قلت: تأمل الآن في هذا تجد قول سعيد بن المسيب مستخرجا من هذا، بيانه: أنه أوجب في أصبع المرأة الواحدة عشرا من الإبل مثل أصبع الرجل الواحدة، وأوجب في أصبعيها عشرين من الإبل كما في أصبعي الرجل، وأوجب في ثلاثة أصابع منها ثلاثين من الإبل كثلاثة أصابع من الرجل، وأوجب في أربعة أصابع منها عشرين من الإبل وخالف القياس المذكور; لأن القياس ينبغي أن يجب أربعون من الإبل كما في أربعة أصابع من الرجل، ولكنه أخذ ذلك من قول زيد بن ثابت حيث قال: "دية المرأة في الخطأ مثل دية الرجل حتى يبلغ الثلث، فما زاد فهي على النصف" وها هنا لما زادت أصابع المرأة على الثلث أوجب ديتها على نصف دية الرجل، وكانت دية الرجل في أربعة أصابع أربعين إبلا فأوجب نصفها، وهو عشرون إبلا في أربعة أصابع منها على الأصل المذكور، ألا ترى أن ربيعة لما استبعد ذلك حيث قال: "حين آلمت جراحها وعظمت مصيبتها كان الأقل لأرشها، قال سعيد بن المسيب: أعراقي أنت؟ " أراد به أنت مخالف خارج، ثم قال: "يا ابن أخي، السنة" أراد بها سنة زيد بن ثابت ومذهبه وطريقته في ذلك. والله أعلم.




                                                الخدمات العلمية