الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1543 1544 ص: فقد تضاد هذا الحديث وحديث أبي حميدة فنظرنا في صحة مجيئهما واستقامة أسانيدهما فإذا فهد ويحيى بن عثمان قد حدثانا، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: نا يحيى وسعيد بن أبي مريم، قالا: ثنا عطاف بن خالد ، قال: حدثني محمد بن عمرو بن عطاء، قال: "حدثني رجل أنه وجد عشرة من أصحاب النبي - عليه السلام - جلوسا ... " فذكر نحو حديث أبي عاصم ، سواء.

                                                قال أبو جعفر : -رحمه الله-: فقد فسد بما ذكرنا حديث أبي حميد; لأنه صار: عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن رجل، وأهل الإسناد لا يحتجون بمثل هذا، فإن ذكروا في ذلك ضعف العطاف بن خالد، قيل لهم: وأنتم أيضا تضعفون عبد الحميد أكثر من تضعيفكم للعطاف مع أنكم لا تطرحون حديث العطاف كله، إنما تزعمون أن حديثه في القديم صحيح كله، وأن حديثه بأخرة دخله شيء، هكذا قال يحيى بن معين في كتابه، وأبو صالح سماعه من العطاف قديم جدا، فقد دخل ذلك فيما صححه يحيى من حديثه، مع أن سن محمد بن عمرو بن عطاء لا يحتمل مثل هذا; وليس أحد يجعل هذا الحديث سماعا لمحمد بن عمرو من أبي حميد إلا عبد الحميد، وهو عندكم ضعيف، ولكن الذي روى حديث أبي حميد ووصله لم يفصل حكم الجلوس كما فصله عبد الحميد .

                                                [ ص: 437 ]

                                                التالي السابق


                                                [ ص: 437 ] ش: أشار بهذا إلى الجواب عن حديث أبي حميد الذي احتج به أهل المقالة الثانية كما ذكرناه، تقريره أن يقال: قد تضاد هذا الحديث، أعني حديث وائل بن حجر وحديث أبي حميد، بيان ذلك: أن حديث أبي حميد يدل على أن صفة الجلوس في القعدة الأخيرة هي التورك، وحديث وائل يدل على أنه يفترش اليسرى ويقعد عليها مطلقا من غير قيد بالأخيرة ولا بالأولى، وحديث أبي حميد مقيد، وبين المقيد والمطلق تضاد، فإذا كان الأمر كذلك يجب النظر في حال إسنادي الحديثين هل هما متساويان في الصحة أم لا؟ فنظرنا في ذلك فوجدنا عطاف بن خالد قد روى عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن رجل: "أنه وجد عشرة من أصحاب النبي - عليه السلام - جلوسا ... " فذكر نحو حديث أبي عاصم سواء، فبين عطاف أن بين محمد بن عمرو بن عطاء وبين أولئك الصحابة رجلا، فظهر بهذا فساد حديث أبي حميد; لأن الحديث صار عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن رجل قال: "سمعت أبا حميد الساعدي في عشرة من أصحاب النبي - عليه السلام - أحدهم أبو قتادة ... " الحديث.

                                                وأهل الإسناد لا يحتجون بمثل هذا; لأن فيه مجهولا; فيعل به الحديث فيفسد، فلا يعادل حديث وائل ولا يقاربه، ويكون العمل بحديث وائل .

                                                قوله: "فإن ذكروا في ذلك ضعف العطاف بن خالد" اعتراض من جهة أهل المقالة الثانية، تقريره أن يقال: العطاف بن خالد ضعيف; لأنه روي عن مالك أنه تكلم فيه، ولم يحمده. وقال الرازي: ليس بذاك. فإذا كان كذلك فكيف يفسد به حديث أبي حميد، وتقرير الجواب: أن في إسناد حديث أبي حميد: عبد الحميد بن جعفر، وأنتم تضعفون عبد الحميد أكثر من تضعيفكم للعطاف، وكان يحيى القطان يضعفه، وكان الثوري يحمل عليه من أجل القدر ويضعفه، وكان أدنى حالا من العطاف، مع أنكم لا تطرحون حديث العطاف كله، بل تقولون: إن حديثه في القديم صحيح كله، وأن حديثه لم يتغير إلا في أخرة، كذا قاله يحيى بن معين في كتابه "الجرح والتعديل"، وقال أبو طالب: سألت أحمد بن حنبل عن عطاف بن خالد، فقال: هو من أهل المدينة، ثقة صحيح الحديث. وعنه: ليس به بأس. وعن يحيى بن معين: ليس به بأس، ثقة صالح الحديث. وقال أبو زرعة: [ ص: 438 ] ليس به بأس. وقال أبو حاتم: صالح ليس بذاك. وعن أبي داود: ثقة. واحتج به الترمذي والنسائي، ومن نقل عنه جرحه لا يعتبر; لأنه جرح مبهم غير مفسر.

                                                قوله: "بأخرة" بفتحات الهمزة والخاء والراء، يقال: جاء فلان بأخرة، وما عرفته إلا بأخرة: أي أخيرا.

                                                قوله: "وأبو صالح سماعه من العطاف قديم جدا" أي أبو صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث روايته عن العطاف قديمة جدا، فبالاتفاق بيننا وبينكم تكون روايته عنه صحيحة.

                                                قوله: "مع أن سن محمد بن عمرو بن عطاء ... إلى آخره" جواب آخر لبيان ضعف حديث أبي حميد، بيانه: أن في حديث أبي حميد حضر محمد بن عمرو بن عطاء أبا حميد وأبا قتادة [ويكون] هذا صحيحا، وأبو قتادة قتل مع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وصلى عليه علي - رضي الله عنه -، كذا قال الشعبي والهيثم بن عدي. وقال ابن عبد البر: هو الصحيح. وقيل: توفي بالكوفة سنة ثمان وثلاثين، ولهذا قال ابن حزم: ولعله وهم فيه يعني: عبد الحميد ، ومحمد بن عمرو بن عطاء توفي في خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وكانت خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك في سنة خمس وعشرين ومائة، ووفاته في سنة ست وعشرين ومائة.

                                                وقد شنع البيهقي ها هنا على الطحاوي تشنيعا باردا، ذكرناه مع جوابه في باب "التكبير للركوع والتكبير للسجود".

                                                قوله: "وليس أحد يجعل هذا الحديث" يعني حديث أبي حميد، سماعا لمحمد بن عمرو بن عطاء من أبي حميد الساعدي إلا عبد الحميد بن جعفر، وهو عندكم ضعيف، قد ذكرنا عن قريب من ضعفه من الأئمة، وهذا بخلاف ما رواه الثقات; فإنهم رووا حديث أبي حميد موصولا من غير فصل حكم الجلوس كما فصله عبد الحميد، فحينئذ تسقط روايته لمخالفته رواية الثقات من وجهين:

                                                [ ص: 439 ] أحدهما: أنه خالفهم في الوصل; لأن في روايته: محمد بن عمرو بن عطاء ، عن أبي حميد، وفي رواية هؤلاء: محمد بن عمرو بن عطاء ، عن رجل، عن أبي حميد .

                                                والثاني: أنه فصل بين الجلوسين، وهؤلاء لم يفصلوا، فمن كان بهذه المثابة وخالف الثقات لا تقبل روايته، والله أعلم.




                                                الخدمات العلمية