الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1641 1642 1643 1644 ص: واحتج الذين قالوا: لا تتم الصلاة حتى يقعد فيها بمقدار التشهد بما قد حدثنا فهد ، بن سليمان، قال: ثنا أبو نعيم ، وأبو غسان ، -واللفظ لأبي نعيم- قال: ثنا زهير بن معاوية ، عن الحسن بن حر، قال: حدثني القاسم بن مخيمرة ، قال: أخذ علقمة بيدي فحدثني أن عبد الله بن مسعود أخذ بيده، وأن رسول الله - عليه السلام - أخذ بيده وعلمه التشهد. ،

                                                فذكر التشهد على مثل ما ذكرنا عن عبد الله في باب التشهد، . وقال: "فإذا فعلت ذلك وقضيت هذا فقد تمت صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد".

                                                حدثنا الحسين بن نصر، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا زهير، قال: ثنا الحسن بن حر ... فذكر مثله.

                                                حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المقدمي ، قال: ثنا أبو معشر البراء ، عن أبي حمزة ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، عن النبي - عليه السلام - ... ثم ذكر التشهد ، وقال: " لا صلاة إلا بتشهد"، . فرووا ما ذكرنا من قول النبي - عليه السلام -.

                                                ثم رووا من قول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - ما قد حدثنا سليمان بن شعيب الكيساني، قال: ثنا يحيى بن حسان، قال: ثنا وكيع ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: "التشهد انقضاء الصلاة، والتسليم إذن بانقضائها".

                                                [ ص: 545 ]

                                                التالي السابق


                                                [ ص: 545 ] ش: أي احتج الفريق الذين قالوا -وأراد بهم: أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدا، ومن كان معهم ممن ذكرناهم فيما مضى-: لا تتم الصلاة حتى يقعد فيها قدر التشهد، واحتجوا على ذلك بحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -.

                                                وأخرجه عن أربع وجوه: ثلاثة مرفوعة، وواحد موقوف على ابن مسعود:

                                                الأول: عن فهد بن سليمان الكوفي ، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، وعن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، كلاهما عن زهير بن معاوية بن حديج ، عن الحسن بن حر بن الحكم النخعي الكوفي ، عن القاسم بن مخيمرة الهمداني الكوفي ، عن علقمة بن قيس الكوفي .

                                                وهذا إسناد صحيح، ورجاله أئمة ثقات.

                                                وأخرجه أبو داود : ثنا عبد الله بن محمد النفيلي، ثنا زهير، نا الحسن بن حر ، عن القاسم بن مخيمرة، قال: أخذ علقمة بيدي فحدثني: "أن عبد الله بن مسعود أخذ بيده، وأن رسول الله - عليه السلام - أخذ بيد عبد الله فعلمه التشهد في الصلاة ... فذكر مثل دعاء حديث الأعمش، إذا قلت هذا -أو قضيت هذا- فقد قضيت صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد".

                                                الثاني: عن الحسين بن نصر بن المعارك ، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري ، عن زهير بن معاوية ، عن الحسن بن حر ... إلى آخره.

                                                وهذا أيضا إسناد صحيح.

                                                وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" : أنا أبو عروبة، قال: ثنا عبد الرحمن بن عمرو البجلي، قال: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا الحسن بن حر ، عن القاسم بن مخيمرة، قال: أخذ علقمة بيدي فحدثني: "أن عبد الله بن مسعود أخذ بيده، وأن النبي - عليه السلام - أخذ بيد عبد الله فعلمه التشهد في الصلاة: التحيات لله، والصلوات [ ص: 546 ] والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" قال زهير: غفلت حين كتبته من الحسن. فحدثني من حفظه عن الحسن بنفسه: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله" قال زهير: ثم رجعت إلى حفظي: "فإذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد".

                                                الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، عن محمد بن عمر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي شيخ الأربعة، عن أبي معشر يوسف بن يزيد العطار البراء، سمي به لأنه كان يبري النبل، وقيل: العود، روى له الشيخان.

                                                عن أبي حمزة -بالحاء المهملة، والزاي المعجمة- واسمه محمد بن ميمون السكري ، روى له الجماعة.

                                                عن إبراهيم النخعي ، عن علقمة .

                                                وهذا أيضا إسناد صحيح.

                                                وأخرجه البزار في "مسنده" : ثنا محمد بن مرداس، قال: ثنا محبوب بن الحسن، قال: ثنا أبو حمزة ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله قال: "كان النبي - عليه السلام - يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: تعلموها فإنه لا صلاة إلا بتشهد، يقول: التحيات لله، والصلوات والطيبات ... " إلى آخره.

                                                وأخرجه الطبراني في "الكبير" : ثنا عبدان بن أحمد، ثنا زيد بن الحرشي، ثنا صفدي بن سنان ، عن أبي حمزة ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله قال: "كان النبي - عليه السلام - يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن، ويقول: تعلموا; فإنه لا صلاة إلا بالتشهد".

                                                [ ص: 547 ] وهذا ظاهره متروك; بدليل حديث الأعرابي، والفرضية لا تثبت بخبر الآحاد، غاية ما في الباب تثبت به السنة، كما في قوله عليه السلام: "لا وضوء لمن لم يسم" و"لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب"، وذهب إلى ظاهره أحمد وأبو ثور والليث وآخرون. وكذا قال الشافعي في التشهد الأخير.

                                                الرابع: وهو الموقوف أخرجه بإسناد صحيح أيضا: عن سليمان بن شعيب الكيساني ، عن يحيى بن حسان ، عن أبي وكيع الجراح بن مليح ، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي ، عن أبي الأحوص عوف بن مالك الأشجعي ، عن عبد الله .

                                                وأخرج البيهقي : من حديث شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص، قال عبد الله: "مفتاح الصلاة التكبير، وانقضاؤها التسليم، إذا سلم الإمام فقم إن شئت" ومعنى اللفظين في الحقيقة واحد على ما لا يخفى، فقوله: "التشهد انقضاء الصلاة" يعني تنقضي الصلاة بالقعود مقدار التشهد، فهذا يدل على فرضية القعدة في آخر الصلاة; لأن ما ينقضي به الفرض فهو فرض بخلاف السلام، فإنه لا ينقضي به الفرض، وإنما هو إذن بانقضائه، أي: إعلام به.

                                                وبقي الكلام في الحديث الأول من وجهين:

                                                الأول: أن الخطابي زعم أنهم اختلفوا في هذا الكلام هل هو من قول النبي - عليه السلام - أو من قول ابن مسعود؟ فإن صح مرفوعا إلى النبي - عليه السلام - ففيه دلالة على أن الصلاة على النبي في التشهد غير واجبة.

                                                وقال البيهقي بعد أن روى هذا الحديث: الأصح أنه من قول ابن مسعود، يعني قوله: "فإذا فعلت ذلك أو قضيت هذا ... " إلى آخره.

                                                وقال ابن حبان بعد أن أخرجه : وقد أوهم هذا الحديث من لم يحكم الصناعة أن الصلاة على النبي - عليه السلام - ليست بفرض.

                                                [ ص: 548 ] فإن قوله: "إذا قلت هذا" زيادة أخرجها زهير بن معاوية في الخبر عن الحسن بن حر .

                                                ثم قال: ذكر بيان أن هذه الزيادة من قول ابن مسعود لا من قول النبي - عليه السلام - وأن زهيرا أدرجه في الحديث.

                                                ثم أخرجه : عن ابن ثوبان ، عن الحسن بن حر ، عن القاسم بن مخيمرة به سندا ومتنا، وفي آخره قال ابن مسعود: "فإذا فرغت من هذا فقد فرغت من صلاتك، فإن شئت فاثبت، وإن شئت فانصرف".

                                                ثم أخرجه : عن حسين بن علي الجعفي ، عن الحسن بن حر، به، وفي آخره: قال الحسن: وزادني محمد بن أبان بهذا الإسناد قال: "فإذا قلت هذا فإن شئت فقم". قال: ومحمد بن أبان ضعيف قد تبرأنا من عهدته في كتاب "الضعفاء".

                                                وقال الدارقطني في "سننه" بعد أن أخرجه: هكذا أدرجه بعضهم في الحديث عن زهير، ووصله بكلام النبي - عليه السلام -، وفصله شبابة بن سوار عن زهير فجعله من كلام ابن مسعود، وهو أشبه بالصواب; فإن ابن ثوبان رواه عن الحسن بن حر كذلك وجعل آخره من كلام ابن مسعود، ولاتفاق حسين الجعفي ، وابن عجلان ، ومحمد بن أبان في روايتهم عن الحسن بن حر على ترك ذكره في آخر الحديث، مع اتفاق كل من روى التشهد عن علقمة وغيره عن ابن مسعود على ذلك، ثم ساق جميع ذلك بالأسانيد وفي آخره: قال ابن مسعود: "إذا فرغت من هذا ... " إلى آخره.

                                                والجواب عن ذلك جميعه من وجوه:

                                                [ ص: 549 ] الأول: أن أبا داود روى هذا الحديث وسكت عنه، ولو كان فيه ما ذكروه لنبه عليه; لأن عادته في كتابه أن يلوح على مثل هذه الأشياء، وكذلك الطحاوي سكت عن هذا ولم يلوح عليه.

                                                الثاني: زعم أبو زيد الدبوسي وغيره أن هذه الزيادة رواها أبو داود الطيالسي ، وموسى بن داود الضبي ، وهاشم بن القاسم ، ويحيى بن أبي كثير ، ويحيى بن يحيى النيسابوري في آخرين متصلا، فرواية من رواه مفصولا لا تقطع بكونه مدرجا; لاحتمال أن يكون نسيه ثم ذكره، فسمعه هؤلاء متصلا، وهذا منفصلا، أو قاله ابن مسعود - رضي الله عنه - فتيا كعادته، وقد وجدنا في حديث الإفريقي الذي مضى ذكره عن قريب ما يدل على صحة هذا.

                                                الثالث: أن ابن ثوبان الذي ذكره البيهقي وابن حبان قد ضعفه ابن معين ، والبيهقي بنفسه ذكره في باب "التكبير أربعا".

                                                وكذلك غسان بن الربيع الذي روى عن ابن ثوبان ضعفه الدارقطني وغيره، وبمثل هذا لا تعلل رواية الجماعة الذين جعلوا هذا الكلام متصلا بالحديث، وعلى تقدير صحة السند الذي روي فيه موقوفا، فرواية من وقف لا تعلل بها رواية من رفع; لأن الرفع زيادة مقبولة على ما عرف من مذهب أهل الفقه والأصول، فيحمل على أن ابن مسعود سمعه من النبي - عليه السلام - فرواه كذلك مرة، وأفتى به مرة أخرى، وهذا أولى من جعله من كلامه; إذ فيه تخطئة الجماعة الذين وصلوه، ثم لو سلمنا حصول الوهم في رواية من أدرجه لا يتعين أن يكون الوهم من زهير بل ممن رواه عنه; لأن شبابة رواه عنه موقوفا.

                                                الوجه الثاني: في استنباط الأحكام منه وهو على وجوه:

                                                الأول: أنه ينافي فرضية الصلاة على النبي - عليه السلام - في الصلاة; لأنه - عليه السلام - علق التمام بالقعود، وهو حجة على الشافعي; لأن قوله: "إذا فعلت ذلك" إشارة إلى التشهد والمعنى: إذا قرأت التحيات، "أو قضيت هذا" أي القعود، وحاصل المعنى: إذا [ ص: 550 ] قرأت التشهد وأنت قاعد; لأن قراءة التشهد في غير الصلاة لم تشرع، ولم تعتبر أو قعدت ولم تقل، فيكون التخيير في القول لا في الفعل; إذ الفعل ثابت في الحالين، وكل منهما لا يدل على وجوب الصلاة عليه - عليه السلام -.

                                                وأيضا أنه - عليه السلام - علم التشهد لعبد الله بن مسعود، ثم أمر عقيبه أن يتخير من الدعاء ما يشاء، ولم يعلم الصلاة عليه، ولو كانت فرضا لعلمه; إذ موضع التعليم لا يؤخر فيه بيان الواجب، وأيضا لما علم الأعرابي أركان الصلاة لم يعلمه الصلاة عليه، ولو كانت فرضا لعلمه إياها، وكذا لم ترد في تشهد أحد من الصحابة - رضي الله عنهم -، ومن أوجبها فقد خالف الآثار. وقالت جماعة من أهل العلم: إن الشافعي خالف الإجماع في هذه المسألة، وليس له سلف يقتدي به، منهم ابن المنذر وابن جرير الطبري ، والطحاوي، وهو يستدل بقوله تعالى: صلوا عليه والأمر للوجوب، فلا تجب خارج الصلاة فتعينت الصلاة، وليس في الآية دلالة على ما قال; لأن الأمر لا يقتضي التكرار، بل يجب في العمر مرة; كما اختاره الكرخي، أو كلما ذكر اسم النبي - عليه السلام - كما اختاره الطحاوي - رحمه الله -.

                                                الثاني: أنه ينافي فرضية السلام في الصلاة; لأنه - عليه السلام - خير المصلي بعد القعود بقوله: "إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد"، وهو حجة على الشافعي أيضا حيث فرض السلام.

                                                الثالث: احتج به أصحابنا على فرضية القعدة الأخيرة; وذلك لأنه - عليه السلام - علق تمام الصلاة بالقعود، وما لا يتم الفرض إلا به فهو فرض، وهو حجة على مالك حيث لم يفترض القعدة الأخيرة.

                                                فإن قيل: "أو" لأحد الشيئين، وليس فيه دلالة على ما ادعيتم؟

                                                قلت: جوابه ما ذكرنا من قولنا: وحاصل المعنى ... إلى آخره.

                                                فإن قيل: كيف تثبت الفرضية بخبر الواحد؟

                                                [ ص: 551 ] قلت: ليس الثبوت به، بل هو بالكتاب; لأن نفس الصلاة ثابتة به، وتمامها منها بالخبر بيان لكيفية الإتمام، والبيان به يصح كما في مسح الرأس.

                                                الرابع: احتج به أبو يوسف ومحمد والاثنا عشرية المشهورة: أن الصلاة لا تبطل فيها; لأنه لم يبق عليه شيء، فاعتراض العوارض عليه كاعتراضها بعد السلام والله أعلم.




                                                الخدمات العلمية