الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قلت: ليس المقصود هنا الكلام على كل ما يقوله هذا الرجل، فإن حصره للمسلمين في هذه الطوائف الأربعة تقصير منه، إذ السلف والأئمة وخيار المسلمين ليس منهم واحد من هذه الطوائف، فإن المعتزلة قد عرفت بدعتهم عند المسلمين، والأشعرية جاءوا بعدهم، وما كان في كلامهم من حق فهو قول السلف والأئمة، وما كان فيه من باطل فهو مما أحدث، كأقوال المعتزلة وغيرهم. [ ص: 348 ]

وأما الباطنية فهم أبعد عن السلف والأئمة من هؤلاء وهؤلاء.

وأما الذين سماهم بالحشوية، فهذا الذي ذكره عنهم، إن أريد به أن الإيمان بوجود الرب تبارك وتعالى يكفي فيه مجرد إخبار من لم يعلم صدقه بعد، فهذا قول لا يقوله عاقل يعقل ما يقول، فضلا عن أن يكون هذا قول طائفة لها قول، أو قول سلف الأمة وأئمتها، ولكن غاية ما قد يقال: إن الجزم بوجود الرب [تعالى] يكفي في الإيمان بأي طريق من الطرق حصل ذلك.

وقد تنازع الناس في الجزم: هل يمكن أن يكون بغير علم أم لا؟ وهل يحصل الإيمان بدون العلم [به] أم لا؟ وإذا حصل الإيمان بدون العلم فهل بعد ذلك طلب العلم به أم لا؟

وتنازعوا في العلم به: هل يحصل ضرورة وموهبة أم لا يحصل إلا كسبا؟ ونحو ذلك من المسائل التي ليس هذا موضعها.

وكذلك العلم بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو غيره من المخبرين، له طرق متنوعة ليس هذا موضعها. فغير الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أخبر بشيء قد يعلم صدقه بوجوه متنوعة، فالرسول صلى الله عليه وسلم أولى أن يعلم صدقه كذلك. وقد يفرق في التصديق بين شخص وشخص. فهذا وأمثاله مما يقوله من يتكلم في العلم. [ ص: 349 ]

فهؤلاء قد يقولون: العلم بوجود الرب هو فطري ضروري، لا يتوقف على النظر والعلم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، مع ما يقترن برسالته من آيات الصدق التي تحصل أيضا بالضرورة.

وإذا حصل العلم بالصانع تعالى وبالرسول بعلوم ضرورية، أمكن بعد هذا أن يعلم تفصيل المعرفة بالله وصفاته وغير ذلك بطريق السماع من الرسول.

ومما يبين هذا أن الذين خاطبهم الرسول صلى الله عليه وسلم كان عامتهم مقرين بالصانع، وكانت آيات رسالته وأعلام نبوته أظهر عند طالب الحق من أن تخفى على عاقل.

وأيضا فقد يقال: إن من الناس من يحصل له العلم بحال الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه عالم صادق فيما يذكره من العلوم [الإلهية والمعارف الدينية، ثم يعرف من الرسول صلى الله عليه وسلم هذه العلوم] كما قد يسلكه أبو حامد، وهذا الرجل، وغير واحد في العلم بالنبوة - فيقولون نعلم أن هذا نبي، كما نعلم أن هذا الطبيب، وأن هذا شاهد عدل، وأن هذا أمين، وسائر الصناعات، [ ص: 350 ] فإنه إذا علم وجود النوع كان العلم بأن هذا الشخص من أهل هذا النوع له طرق متنوعة. فهذا طريق تعرف به نبوة النبي قبل العلم بتفصيل العلوم الإلهية والدينية.

وبالجملة فالعلم بنبوة النبي لها طرق كثيرة قد ذكرت في غير هذا الموضع. فالذين يسلكون في معرفة الله تعالى طريق السماع والخبر المجرد يعرفون صدق النبي أولا، ثم يعلمون بخبره ما أخبر به.

والعلم بصدق النبي ليس موقوفا على إثبات المقدمات التي يذكرها كثير من أهل الكلام، كالمعتزلة ومن تبعهم، لما سلكوا في ذلك طريق إثبات حدوث الأجسام، بما ادعوه من التركيب، وبما اتصفت به من الاختصاص، وبما قام بها من الأعراض والحوادث، وظنوا أنه لا طريق إلى العلم بصدق الرسول إلا هذه - أخذوا يشنعون على من لم يسلك هذه الطرق، أو قال ما يناقض مقدماتها. وقد عرف بطلان طريقهم شرعا وعقلا، ولهم ولنحوهم من أهل الكلام الباطل تشنيعات على أهل الجماعة. [ ص: 351 ]

وقد تقدم من كلام أبي سليمان الخطابي وغيره في "الغنية عن الكلام وأهله" وبيان طريق المعرفة ما يتعلق بهذا الموضع. ومثل هذا موجود في كلام عامة أئمة المسلمين، فإنهم يذمون الطريق التي أحدثها أهل الكلام، كالمعتزلة ونحوهم. ولكن هؤلاء الذين ابتدعوها يذمون من لم يسلكها من عوام المسلمين وعلمائهم، ويسمونهم حشوية. فإن لفظ الحشوية أول ما عرف الذم به من كلام المعتزلة ونحوهم، رووا عن عمرو بن عبيد أنه قال: كان عبد الله بن عمر حشويا وهم يسمون العامة الحشو، كما تسميهم الرافضة والفلاسفة الجمهور، ويسمون مذهب الجماعة مذهب الحشو. فلما كان السلف والأئمة يردونهم إلى الشرع، وظنوا هم أن الشرع لا يدل إلا بمجرد خبر الرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا بطريق الإلزام، فيلزم أن يكون وجود الصانع تعالى يكفي فيه مجرد خبر الرسول بوجوده، وكان هذا من تقصيرهم في معرفة الشرع، فإن الشرع يتضمن بيان الدلائل العقلية التي يحتاج إليها وينتفع بها في هذا الباب.

وقد اعترف بذلك أئمة طوائف الكلام والفلسفة الذين يقولون: لا تعرف إلا بالعقل، بل الذين يقولون بأن وجوب المعرفة والنظر ثابت في العقل، كما سنذكر إن شاء الله تعالى بعض كلامهم في ذلك.

فإن [ ص: 352 ] الكتاب - والرسول - وإن كان يخبر أحيانا بخبر مجرد، كما يأمر أحيانا بأمر مجرد، فهو يذكر مع إخباره عن الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله، من الدلالة والبيان والهدى والإرشاد، ما يبين الطرق التي يعلم بها ثبوت ذلك، وما يهدي القلوب ويدل العقول على معرفة ذلك، ويذكر من الآيات والأمثال المضروبة، التي هي مقاييس عقلية وبراهين يقينية، ما لا يمكن أن يذكر أحد من أهل الكلام والفلسفة ما يقاربه، فضلا عن ذكر ما يماثله أو يفضل عليه.

ومن تدبر ذلك رأى أنه لم يذكر أحد - طريقا عقليا يعرف به وجود الصانع، أو شيء من أحواله - من أهل الكلام والفلاسفة إلا وقد جاء القرآن بما هو خير منه وأكمل وأنفع وأقوى وأقطع، بتقدير صحة ما يذكره هؤلاء.

التالي السابق


الخدمات العلمية