الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ) المعنى : مثل ما جعل هؤلاء الكفار المقترحين الآيات وغيرهم أعداء لك ، جعلنا لمن قبلك من الأنبياء أعداء شياطين الإنس والجن ، أي متمردي الصنفين . ( يوحي ) : يلقي في ‌‌‌‌خفية بعضهم إلى بعض ، أي : بعض الصنف الجني إلى بعض الصنف الإنسي ، أو يوحي شياطين الجن إلى شياطين الإنس زخرف القول ، أي محسنه ومزينه ، وثمرة هذا الجعل الامتحان فيظهر الصبر على ما منوا به ممن يعاديهم فيعظم [ ص: 207 ] الثواب والأجر ، وفي هذا تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتأس بمن تقدمه من الأنبياء ، وأنك لست منفردا بعداوة من عاصرك ، بل هذه سنة من قبلك من الأنبياء . و ( عدو ) كما قلنا قبل في معنى أعداء . وقال تعالى : ( وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ) ، وقال الشاعر :


إذا أنا لم أنفع صديقي بوده فإن عدوي لن يضرهم بغضي



وأعرب الحوفي والزمخشري وابن عطية وأبو البقاء هنا كإعرابهم ( وجعلوا لله شركاء الجن ) ، وجوزوا في ( شياطين ) البدلية من ( عدوا ) كما جوزوا هناك بدلية ( الجن ) من ( شركاء ) وقد رددناه عليهم . والظاهر أن قوله " شياطين الإنس والجن " هو من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أي الإنس والجن الشياطين ، فيلزم أن يكون من الإنس شياطين ومن الجن شياطين ، والشيطان هو المتمرد من الصنفين ، كما شرحناه ، وهذا قول قتادة ومجاهد والحسن ، وكذا فهم أبو ذر من قول الرسول له : " هل تعوذت من شياطين الجن والإنس ؟ " قلت : يا رسول الله ، وهل للإنس من شياطين ؟ قال : " نعم وهم شر من شياطين الجن " . وقال مالك بن دينار : شيطان الإنس علي أشد من شيطان الجن لأني إذا تعوذت بالله ذهب عني شيطان الجن ، وشيطان الإنس يجيئني ويجرني إلى المعاصي عيانا .

وقال عطاء : أما أعداء النبي - صلى الله عليه وسلم - من شياطين الإنس فالوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأبو جهل ابن هشام والعاصي بن عمرو وزمعة بن الأسود والنضر بن الحارث والأسود بن عبد الأسد ، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وعتبة بن أبي معيط والوليد بن عتبة ، وأبي وأمية ابنا خلف ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، وعتبة بن عبد العزى ومعتب بن عبد العزى .

وفي الحديث : " ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن " قيل : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : " ولا أنا ، إلا أن الله عافاني وأعانني عليه فأسلم ، فلا يأمرني إلا بخير " .

وقيل : الإضافة ليست من باب إضافة الصفة للموصوف ، بل هي من باب غلام زيد ، أي : شياطين الإنس والجن ، أي : متمردين مغوين لهم . وعلى هذا فسره عكرمة والضحاك والسدي والكلبي ، قالوا : ليس من الإنس شياطين ، والمعنى : شياطين الإنس التي مع الإنس ، وشياطين الجن التي مع الجن ، قسم إبليس جنده فريقا إلى الإنس وفريقا إلى الجن ، يتلاقون فيأمر بعض بعضا أن يضل صاحبه بما أضل هو به صاحبه ، ورجحت هذه الإضافة الإضافة المغايرة بين المضاف والمضاف إليه ، ورجحت الإضافة السابقة بأن المقصود التسلي والائتسا بمن سبق من الأنبياء ، إذ كان في أممهم من يعاديهم كما في أمة محمد من كان يعاديه ، وهم شياطين الإنس ، والظاهر في " جعلنا " أنه تعالى هو مصيرهم أعداء للأنبياء ، والعداوة للأنبياء معصية وكفر ، فاقتضى أنه خالق ذلك ، وتأول المعتزلة هذا الظاهر . فقال الزمخشري : وكما خلينا بينك وبين أعدائك كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء وأعدائهم ، لم يمنعهم من العداوة . انتهى . وهذا قول الكعبي قال : خلى بينه وبينه .

وقال الجبائي : الجعل هنا الحكم والبيان ، يقال : كفره حكم بكفره ، وعدله أخبر عن عدالته . ولما بين للرسول كونهم أعداء لهم ، قال : جعلهم أعداء لهم . وقال أبو بكر الأصم : لما أرسله الله إلى العالمين وخصه بالمعجزات حسدوه وصار الحسد مبينا للعداوة القوية ، فلهذا التأويل قال : جعلهم له أعداء ، كما قال الشاعر :


فأنت صيرتهم لي حسدا



وذلك يقتضي صيرورتهم أعداء للأنبياء ، وانتصب غرورا على أنه مفعول له ، وجوزوا أن يكون مصدرا ليوحي لأنه بمعنى يغر بعضهم بعضا ، أو مصدرا في موضع الحال أي غارين .

( ولو شاء ربك ما فعلوه ) أي : ما فعلوا العداوة أو الوحي أو الزخرف أو القول أو الغرور ، أوجه ذكروها .

( فذرهم وما يفترون ) أي : اتركهم وما يفترون من تكذيبك ، ويتضمن الوعيد والتهديد . قال ابن عباس : يريد ما زين لهم إبليس [ ص: 208 ] وما غرهم به . انتهى . وظاهر الأمر الموادعة وهي منسوخة بآيات القتال . وقال قتادة : كل ( ذر ) في كتاب الله فهو منسوخ بالقتال ، و ( ما ) بمعنى الذي أو موصوفة أو مصدرية .

( ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون ) أي : ولتميل إليه ، الضمير يعود على ما عاد عليه في فعلوه ، وليرضوه وليكتسبوا ما هم مكتسبون من الآثام . واللام لام كي ، وهي معطوفة على قوله " غرورا " لما كان معناه للغرور ، فهي متعلقة بيوحي ، ونصب ( غرورا ) لاجتماع شروط النصب فيه ، وعدي ( يوحي ) إلى هذا باللام لفوت شرط صريح المصدرية ، واختلاف الفاعل لأن فاعل يوحي هو ( بعضهم ) وفاعل ( تصغى ) هو ( أفئدة ) ، وترتيب هذه المفاعيل في غاية الفصاحة ; لأنه أولا يكون الخداع فيكون الميل فيكون الرضا فيكون الفعل ، فكأن كل واحد مسبب عما قبله . وقال الزمخشري : ( ولتصغى ) جوابه محذوف ، تقديره : وليكون ذلك جعلنا لكل نبي عدوا ، على أن اللام لام الصيرورة ، والضمير في ( إليه ) راجع إلى ما يرجع إليه الضمير في فعلوه ، أي : ولتميل إلى ما ذكر من عداوة الأنبياء ووسوسة الشياطين أفئدة الكفار . انتهى . وتسمية ما تتعلق به اللام جوابا اصطلاح غريب ، وما قاله هو قول الزجاج ، قال : تقديره ( ولتصغى إليه ) فعلوا ذلك ، فهي لام صيرورة . وذهب الأخفش إلى أن لام ( ولتصغى ) هي لام كي ، وهي جواب لقسم محذوف ، تقديره : والله ( ولتصغى ) موضع ولتصغين ، فصار جواب القسم من قبيل المفرد ، فتقول : والله ليقوم زيد ، التقدير : أقسم بالله لقيام زيد ، واستدل على ذلك بقول الشاعر :


إذا قلت قدني قال الله حلفة     لتغني عني ذا أنائك أجمعا



وبقوله : ( ولتصغى ) ، والرد عليه مذكور في كتب النحو . وقرأ النخعي والجراح بن عبد الله : ( ولتصغي ) من أصغى رباعيا . وقرأ الحسن بسكون اللام في الثلاثة . وقيل عنه في ليرضوه وليقترفوا بالكسر في ( ولتصغى ) . وقال أبو عمرو الداني : قراءة الحسن إنما هي ( ولتصغي ) بكسر الغين . انتهى . وخرج سكون اللام في الثلاثة على أنه شذوذ في لام كي ، وهي لام كي في الثلاثة ، وهي معطوفة على غرور ، أو سكون لام كي في نحو هذا شاذ في السماع قوي في القياس ، قاله أبو الفتح . وقال غيره : هي لام الأمر في الثلاثة ، ويبعد ذلك في ( ولتصغى ) بإثبات الياء ، وإن كان قد جاء ذلك في قليل من الكلام . قرأ قنبل : " إنه من يتقي ويصبر " على أنه يحتمل التأويل . وقيل : هي في ( ولتصغى ) لام كي سكنت شذوذا ، وفي ( ليرضوه وليقترفوا ) لام الأمر مضمنا التهديد والوعيد ، كقوله : ( اعملوا ما شئتم ) ، وفي قوله : ( ما هم مقترفون ) ، أنها تفيد التعظيم والتشبيع لما يعملون ، كقوله تعالى : ( فغشيهم من اليم ما غشيهم ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية