الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                الولاية الخامسة : القضاء . قال ابن بشير : لانعقاد الولايات مطلقا ثلاثة شروط : العلم بشرائط الولاية في المولى ، فإن لم يعلمها إلا بعد التقليد استأنفه ، الثاني : ذكر المولي له ، كالقضاء والإمارة ، فإن جهل فسدت ، وذكر البلد ليمتاز عن غيره ، وقاله الشافعية ، وتقدم له في ولاية الوزارة أن صرائح ألفاظ الولايات مطلقا : أربعة ، وكناياتها : سبعة . ثم ها هنا بحثان في الولاية العامة الخاصة ، وهو التحكيم .

                                                                                                                [ ص: 33 ] البحث الأول : في الولاية العامة ، قال صاحب المقدمات : يجب أن لا يولى القضاء من طلبه ، وإن اجتمعت فيه الشروط ، مخافة أن يوكل إليه ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : ( إنا لا نستعمل على عملنا من أراده ) قال اللخمي : إقامة الحكم للناس واجب ، لأنه أمر بالمعروف ونهي عن المنكر ، فعلى ولي الأمر أن ينظر في أحكام المسلمين إن كان أهلا ، أو يقيم للناس من ينظر ، فإن لم يكن للموضع ولي أمر ، كان ذلك لذوي الرأي والثقة ، فمن اجتمع رأيهم عليه أنه يصلح أقاموه ، ومتى كان بالبلد عدد يصلحون فقام واحد سقط عن الباقين ، فإن لم يكن إلا واحد يصلح تعين عليه وجوبا الدخول فيه ، وقاله الأئمة ، وقالوا : يجب على ولي الأمر إجباره على ذلك ، لأنه حق الله تعالى في ضبط مصالح الملة .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال الشافعية : يجوز انعقاد ولاية القضاء بالمكاتبة والمراسلة كالوكالة وقواعدنا تقتضيه ، قالوا : فإن كان التقليد باللفظ مشافهة فالقبول على الفور لفظا كالإيجاب ، وفي المراسلة يجوز التراخي بالقول ، وفي القبول بالشرع في النظر خلاف ، وقواعدنا تقتضي الجواز ، لأن المقصود هو الدلالة على ما في النفس .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال الشافعية : إذا انعقدت الولاية لا يجب عند المتولي النظر حتى تشيع الولاية في عمله ليذعنوا لطاعته ، وهو شرط أيضا في وجوب الطاعة ، وقواعد الشريعة تقتضي ما قالوه ، فإن التمكن والعلم شرطان في التكليف عندنا وعند غيرنا ، فالشياع يوجب المكنة له ، والعلم لهم .

                                                                                                                [ ص: 34 ] فرع

                                                                                                                قال الشافعية : تجوز الولاية على شخص معين فيحكم بينهما كما تساجرا ، أو يوما واحدا في جميع الدعاوى ، وتزول ولايته بغروب الشمس ، أو في كل يوم سبت ، فإذا خرج يوم السبت لم تبطل ولايته لبقائها على أمثاله ، وقواعدنا تقتضي جميع ذلك .

                                                                                                                تنبيه : إذا ولي قاض كتب له تقليد يؤمر فيه بتقوى الله تعالى وطاعته ، والتثبت في القضاء ، ومشاورة العلماء ، وتصفح أحوال الشهود ، وتأمل الشهادات ، وحفظ أموال الأيتام ، والقيام بأمورهم ، والنظر في الأوقاف ، وغير ذلك مما يفوض إليه ؛ ليكون ذلك دستورا يعلم به ما يقلده فيعمل عليه ، لأن النبي _ صلى الله عليه وسلم _ كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن ، وكتب أبو بكر الصديق لأنس - رضي الله عنهم أجمعين - حين بعثه إلى البحرين كتابا وختمه بخاتم رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ وكتب عمر _ رضي الله عنه _ إلى أهل الكوفة : أما بعد : فإني بعثت إليكم عمارا أميرا قاضيا ووزيرا ، فاسمعوا له وأطيعوا ، فقد آثرتكم به .

                                                                                                                المبحث الثاني : في الولاية الخاصة وهي التحكيم . وفي الجواهر : جائز في الأموال وما في معناها ، فلا يقيم المحكم حدا ، ولا يلاعن ، ولا يحكم في قصاص أو طلاق أو عتق أو نسب أو ولاء لقصور ولايته وضعفها ، وهذه أمور عظيمة تحتاج إلى أهلية عظيمة إلا ولاة الأمور غالبا وآحاد الناس فأملس النظر عن [ ص: 35 ] ذلك ، وبجواز التحكيم قال الأئمة لما في النسائي أن رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ قال لأبي شريح : ( إن الله هو الحكم ، فلم تكنى أبا الحكم ؟ قال : إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم ، فرضي كلا الفريقين بحكمي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أحسن هذا ، فمن أكبر ولدك ؟ قال : شريح : قال : فأنت أبو شريح ) وعنه صلى الله عليه وسلم : ( من حكم بين اثنين تراضيا فلم يعدل بينهما فهو ملعون ) وهو دليل الجواز والإلزام ، وإلا لما لعن ، لأن لهما ترك حكمه إذا كان جورا ، وتحاكم عمر وأبي وأبى زيد ، وحاكم عمر أعرابيا إلى شريح قبل أن يوليه ، وتحاكم عثمان وطلحة وجبير بن مطعم ولم يكونوا قضاة ولا ، فقال عمر وعثمان - رضي الله عنهما - خليفتان ، فإذا حكما أحدا صار قاضيا ، لأنا نقول : الرضا بالصورة الخاصة لا يصير بها أحد قاضيا . وقال ( ش ) وابن حنبل : لا ينقض حكمه ، وقال ( ح ) : إن خالف رأي قاضي البلد له نقضه ، وبالأول قال أصحابنا . لنا : الحديث المتقدم ، والقياس على قاض آخر معه في البلد ، ولأنه عقد فيندرج في قوله تعالى : ( أوفوا بالعقود ) وعن ( ش ) وابن حنبل : لا يجوز حكمه في أربعة : النكاح ، واللعان . والقصاص . والقذف ، ويجوز فيما عداها ، ومنع ( ح ) في الحدود .

                                                                                                                تنبيه : أكثر الأصحاب يقولون : إذا حكم الرجلان رجلا ولا ينكر شرائطه ،

                                                                                                                [ ص: 36 ] و صرح الشافعية والحنابلة بأن من شرطه صلاحيته للقضاء ، قال القاضي عبد الوهاب : إذا حكم الرجلان رجلا من أهل الاجتهاد ، قال اللخمي : من شرطه أن يكون عدلا من أهل الاجتهاد أو عاميا ليسترشد العلماء ، فإن لم يسترشدهم لم يجز حكمه ، ويرد وإن وافق قول قائل ، لأن الحكم عند عدم الاسترشاد مخاطرة فترد المعاملات وإذا كان من أهل الاجتهاد ، ومالكيا ، ولم يخرج باجتهاده عن مذهب مالك ، لزم حكمه ، وإن خرج - والخصمان مالكيان - لم يلزمهما ؛ لأنهما إنما حكماه ليحكم على مذهب مالك ، وكذلك الشفيعان ، والحنفيان ، وهذا الكلام يقتضي أن مراده بالاجتهاد ، الاجتهاد في مذهب معين ، لا الاجتهاد على الإطلاق ، قال ابن يونس : قال عبد الملك ومطرف : إذا حكم أحد المتنازعين الآخر فحكم لنفسه ، أو عليهما ، جاز ومضى ما لم يكن جورا ، وليس لتحكيم خصما القاضي ، لأن الولاية العامة أشد تصونا عن أنساب الريب ، وقال أشهب : إن حكما امرأة أو عبدا أو مسخوطا مضى ؛ لأنه حق يختص بهما قلنا التصرف فيه ، والولاية العامة حق المسلمين ، وأما الصبي والنصراني والمعتوه والمسوس ، فلا يجوز وإن أصابوا ، لتناول الحكم من غير سببه ، ومنع سحنون : الصبي ، والمرأة والمسخوط ، والكاتب ، والذمي ، وأبطل حكمهم ، ولو حكما رجلين فحكم أحدهما دون الآخر ، لم يجز ، وقاطبع إذا حكما دون البلوغ جاز حكمه إذا عقل ، وعلم فيه غلام لم يبلغ له علم بالسنة والقضاء ، وفي الجواهر : قال أصبغ : لا أحب تحكيم خصم القاضي ، فإن وقع مضى ذلك ، ويذكر في حكمه رضاه بالتحكيم إليه ، وهذه [ ص: 37 ] النقول كلها دائرة على مشابهة التحكيم للقضاء يشترط جميع الشروط المطلوبة في القضاء ، أو يلاحظ خصوص الولاية دون عمومها ، أو كونه مختصا بمعين .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال ابن يونس : قال سحنون : إذا حكم فيما ليس له من أحكام الأبدان نقض حكمه ، وينهى عن العودة ، فإن فعل ذلك ) . . . ) فقتل أو اقتص أو ضرب الحد أدبه السلطان وأمضى حكمه وبقي المحدود محدودا والملاعن ماضيا ، قال اللخمي : أو أمكن من نفسه اضربي خدك ، أو خذ قودك ، لم يصلح إلا بالإمام ، وكذلك النفس ، وأما الجراح : فيجوز أن يقيد من نفسه إن كان نائبا عن الإمام .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال ابن يونس : قال القاسم : إذا حكماه وأقاما البينة عنده ليس لأحدهما رجوع إذا أبلى ذلك صاحبه ؛ لأنه حق له وجب براحته من نظر القضاة . وللحديث المتقدم ، قاله ( ح ) وعن سحنون : لكل واحد منهما الرجوع ما لم يمض الحكم كالوكالة ، وقال ( ش ) وابن حنبل : لا يلزمهما الحكم إلا برضاهما لئلا يكون ذلك عزلا للقضاة وافتياتا عليهم ، لأن رضاهما معتبر ابتداء فاعتبر في اللزوم قياسا لأحدهما على الآخر ، وفي الجواهر : لكل واحد الرجوع ما لم يشبا في الخصومة أو يوكل وكيلا أو يعزله ، وقال عبد الملك : لا يرجع أحدهما . كان قبل أن يعاقد صاحبه أو بعد ما قاسمه الخصومة .

                                                                                                                تنبيه : قال اللخمي : إنما امتنع التحكيم في تلك الأمور ، لأن فيها حقا لغير الخصمين ، إما لله تعالى كالطلاق والعتق ، أو لآدمي وهو الولد في اللعان ، وفي [ ص: 38 ] النسب ، والولاء حق لمن يأتي بعد ، ويحتمل أن يحكم بعد أسباب تلك الأمور ، ولو رفع ذلك لمن نصب للناس بعد الطلاق والعتق ، ورفع يد الزوج والسيد ، لأنه حق من حقوق الله تعالى ، ويحرم رضا الزوجة بالبقاء معه ، ورضا العبد بالرق ، فإن حكم بالفراق والعتق ولم ير الآخر ذلك فلا يجوز إباحة الزوجة لغير ذلك الزوج وأن لا يجري العبد على أحكام الحرية ، في الموازية : والشهادات ، قال : وأرى إذا فات ذلك بالعصبة أن يرفع الأمور إلى القاضي ، فإن كان فعل الأول حقا أمضاه ، وإلا رده ، ولا يكفي يعني الخصمين حتى يكشف .

                                                                                                                تنبيه : قال اللخمي : يشترط في تحكيم أحد الخصمين الآخر أن يكون المحكم عدلا ومن أهل الاجتهاد ، أو عاميا يسترشد العلماء ، والاشتراط ها هنا أشد ، لوقوع الخطر أكثر .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية