الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الوظيفة الخامسة أن لا يدع طالب العلم فنا من العلوم المحمودة ولا نوعا من أنواعه إلا وينظر فيه نظرا يطلع به على مقصده وغايته ثم إن ساعده العمر طلب التبحر فيه وإلا اشتغل بالأهم منه واستوفاه وتطرف من البقية فإن العلوم متعاونة وبعضها مرتبط ببعض ويستفيد منه في الحال الانفكاك عن عداوة ذلك العلم بسبب جهله فإن الناس أعداء ما جهلوا قال تعالى وإذا : لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم قال الشاعر .


ومن يك ذا فم مر مريض يجد مرا به الماء الزلالا

فالعلوم على درجاتها إما سالكة بالعبد إلى الله تعالى أو معينة على السلوك نوعا من الإعانة ولها منازل مرتبة في القرب والبعد من المقصود والقوام بها حفظة كحفاظ الرباطات والثغور ولكل واحد رتبة وله بحسب درجته أجر في الآخرة إذا قصد به وجه الله تعالى .

التالي السابق


( الوظيفة الخامسة أن لا يدع) ، أي: لا يترك ( طالب العلم فنا من) فنون ( العلوم المحمودة) الذي تقدم ذكرها ( ولا نوعا من أنواعه) والفن في الأصل اسم للغصن من الشجرة، ويطلق، ويراد به النوع فهما مترادفان ( إلا وينظر فيه) بتدبر وتأمل ( نظرا يطلع به على مقصده) ، الذي اشتمل ذلك الفن عليه، ( وغايته) التي ينتهي إليها، وإنما اقتصر عليهما; لأنه بهما يدرك شرف الفن فتارة بالمقصد، وتارة بالغاية فلا بد من الاطلاع عليهما، ( ثم إن ساعده العمر) بأن طال، والوقت بأن صفا ( طلب التبحر) أي: التوسع ( فيه) ولا بأس بذلك، ( وإلا) أي: إن لم ير مساعدة العمر والوقت بأن خاف على نفسه بالموت العاجل، أو ابتلي بالمحن والأكدار ( اشتغل بالأهم) فالأهم، ( فاستوفاه) فهما وحفظا ومدارسة ( وتطرف من البقية) أي: أخذ منها الطرف والنوادر المحتاج إليها في حال طلبه ( فإن العلوم) وإن تفاوتت ( متعاونة) بعين بعضها بعضا ( وبعضها مرتبط بالبعض) ارتباطا كليا تارة وجزئيا أخرى ( ويستفيد من ذلك في الحال) أي: عند معرفته ولو على المشاركة ( الانفكاك) أي: الانفصال ( عن عداوة ذلك العلم بسبب جهله) ، وهذا أقل المراتب فيه، ( فإن الناس أعداء ما جهلوا) ، يروى ذلك من قول سيدنا علي رضي الله عنه: ( قال الله تعالى: وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم ) المراد بهم قريش، وقيل: بنو عامر وغطفان، وأسد وأشجع، وقيل: اليهود على اختلاف في ذلك، والاهتداء هنا التوفيق، أي: إذا لم يوفقوا بالإيمان، وبما أتى به محمد صلى الله عليه وسلم، فسيقولون هذا إفك قديم والإفك: لغة صرف الشيء عما يحق أن يكون عليه، والمراد هنا أشد الكذب، والقديم السابق وهو مثل قولهم: أساطير الأولين وفي كتاب الذريعة للراغب: حق الإنسان أن لا يترك شيئا من العلوم أمكنه النظر فيه، واتسع العمر له، وينجر بشمه عرفه، وبذوقه طيبه، ثم إن ساعده القدر على التغذي به، والتروي منه فبها ونعمت، وإلا لم يصر بجهله بمحله وغباوته عن منفعته إلا معاديا له بطبعه، كما قال القائل وأنشد البيت الآتي ثم قال: ومن جهل شيئا عاداه والناس أعداء ما جهلوا، بل قال الله تعالى: وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم ، وحكى عن بعض فضلاء القضاة أنه رؤي بعدما طعن في السن، وهو يتعلم أشكال الهندسة، فقيل له: في ذلك، فقال: وجدته علما نافعا فكرهت أن أكون بجهلي معاديا له، ولا ينبغي للعاقل أن يستهين بشيء من العلوم، بل يجب أن يجعل لكل واحد حظه الذي يستحقه، ومنزله الذي يستوجبه، ويشكر من هداه لفهمه، وصار سببا لعلمه، فقد حكي عن بعض الحكماء أنه قال: يجب أن نشكر أيادي الذين ولدوا لنا الشكوك; امتنانا لمن حرك خواطرنا بالنظر في العلم عن شكر من أفادنا طرقا من العلم، ولولا مكان فكر من تقدمنا لأصبح المتأخرون حيارى، قاصرين عن معرفة مصالح دنياهم، فضلا عن مصالح أخراهم، فمن تأمل حكمة الله تعالى في أقل آلة يستعملها الناس كالمقراض جمع بين سكينين، مركبا على وجه يتوافى أحدهما على نمط واحد للقرض أكثر تعظيم الله وشكره، وقال: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ( وقال الشاعر) وهو أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي الكوفي في قصيدة له لامية، خمسون بيتا يمدح الأمير بدر بن عمار بن إسماعيل الأسدي، وقبل [ ص: 322 ] هذا البيت:


أرى المتشاعرين غروا بذمي ومن ذا يحمد الداء العضالا ( ومن يك ذا فم مر مريض
يجد مرا به الماء الزلالا )



أي: لا يعادي الإنسان شيئا إلا بعلة ناشئة منه هي المانعة له عن محبته إياه، ألا ترى إلى الماء الزلال، وهو البارد العذب الصافي إذا شربه من به غلبة الصفراء، أو مرض آخر يغير لذة الفم فإنه يجده مرا على غير صفته، فهذا الوجدان راجع إلى الشارب، والمشروب على صفته لم يتغير، وقال شارح الديوان: هذا مثل ضربه يقول: مثلهم معي كمثل المريض مع الماء الزلال يجده مرا لمرارة فمه، كذلك هؤلاء يذمونني لنقصانهم وجهلهم لفضلي، فالنقص فيهم لا في، ولو صحت حواسهم لعرفوا فضلي ( فالعلوم) كلها ( على) تفاوت ( درجاتها) على أقسام ( إما سالكة بالعبد إلى الله عز وجل) سلوكا حقيقيا، كعلم معرفة الله سبحانه، وما يتعلق به، ( أو معينة له على السلوك) إلى الله تعالى كل الإعانة، أو ( نوعا من الإعانة) فالأول: كمعرفة الخواطر، وما يرد عليها من الهواجس الملكية والشيطانية; إذ بتفريغ باطنه عن الهواجس تكون فيه القابلية لمعرفة الله تعالى والثاني: كعلم الإعراب، ( ولها منازل) ودرجات ( مرتبة) ترتيبا غريبا ( في القرب والبعد من المقصود) الأعظم، فمنها ما يقرب من المقصود قربا كليا لشدة الارتباط بينهما، ومنها ما يقرب قربا جزئيا، وكذلك في البعد ولكل من هذه المراتب مراتب ( والقوام بها) أي: القائمون بخدمتها وتحصيلها ( حفظة) لحوزتها يمنعون عن تطرق الخلل والفساد إليها فهم قائمون بإزائها واقفون على حدودها ( كحفظة الرباطات والثغور) ، وهي المواضع التي يرابط فيها المجاهدون حفظا لحوزة الإسلام; كي لا يهجم عليه العدو غرة، ( ولكل واحد) من هؤلاء الطلبة ( رتبة) معلومة، ( وله بحسب درجته) واجتهاده ( أجر) عند الله ( في الآخرة إذا قصد به وجه الله) تعالى، فإن قصد به المباهاة، أو المفاخرة، أو التوثب في المجالس فليس له ثواب عند الله تعالى، وتعبه ضائع، وهذا السياق بعينه لصاحب الذريعة كما سيأتي نص حروفه في آخر الوظيفة التي تليها، وقد فرقها المصنف في الموضعين كما ترى، وسنقف عليه إن شاء الله تعالى .




الخدمات العلمية