الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان تفاوت النفوس في العقل .

قد اختلف الناس في تفاوت العقل ولا معنى للاشتغال بنقل كلام من قل تحصيله بل الأولى والأهم المبادرة إلى التصريح بالحق .

والحق الصريح فيه أن يقال إن التفاوت يتطرق إلى الأقسام الأربعة سوى القسم الثاني وهو العلم الضروري بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات .

فإن من عرف أن الاثنين أكثر من الواحد عرف أيضا استحالة كون الجسم في مكانين وكون الشيء الواحد قديما حادثا وكذا سائر النظائر وكل ما يدركه إدراكا محققا من غير شك وأما الأقسام الثلاثة ، فالتفاوت يتطرق إليها أما القسم الرابع : وهو استيلاء القوة على قمع الشهوات فلا يخفى تفاوت الناس فيه بل لا يخفى تفاوت أحوال الشخص الواحد فيه وهذا التفاوت يكون تارة لتفاوت الشهوة إذ قد يقدر العاقل ترك بعض الشهوات دون بعض ولكن غير مقصور عليه .

فإن الشاب قد يعجز عن ترك الزنا وإذا كبر وتم عقله قدر عليه وشهوة الرياء والرياسة تزداد قوة بالكبر لا ضعفا وقد يكون سببه التفاوت في العلم المعرف لغائلة تلك الشهوة ولهذا يقدر الطبيب على الاحتماء عن بعض الأطعمة المضرة وقد لا يقدر من يساويه في العقل على ذلك إذا لم يكن طبيبا وإن كان يعتقد على الجملة فيه مضرة لكن إذا كان علم الطبيب أتم كان خوفه أشد فيكون الخوف جندا للعقل وعدة له في قمع الشهوات وكسرها .

وكذلك يكون العالم أقدر على ترك المعاصي من الجاهل لقوة علمه بضرر المعاصي وأعني به العالم الحقيقي دون أرباب الطيالسة وأصحاب الهذيان .

التالي السابق


(بيان تفاوت الناس في العقل)

اعلم أنه (قد اختلف الناس في تفاوت العقل) فمنهم من منعه مطلقا، ومنهم من أثبته، والمثبتون اختلفوا كذلك على أنحاء شتى هل يتطرق إلى بعض أقسامها أو كلها، (ولا ينبغي الاشتغال بنقل كلام من قل تحصيله) فرمى عن قوس علم الظاهر من غير تأييد باطني ولا مشاهدة أمر يقيني فتحرير كلام مثله لا يجدي نفعا، وإنما هو تسويد في بياض (بل الأولى المبادرة) أي المسارعة (إلى التصريح بالحق) والتبيين له (والحق الصريح) أي الخالص (فيه أن التفاوت) فيه (يتطرق إلى الأقسام الأربعة) منه (سوى القسم الثاني) من أقسامه (وهو العلم الضروري بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات فإن من عرف) بعقله (أن الاثنين أكثر من واحد عرف أيضا استحالة كون الجسم) الواحد (في مكانين) مختلفين، (و) استحالة (كون الواحد قديما حادثا) لمضادتهما (وكذا سائر النظائر وكل ما يدركه العاقل إدراكا محققا من غير شك) فهذا لا يتطرق إليه التفاوت، (وأما الأقسام الثلاثة، فالتفاوت يتطرق إليها) كما يأتي بيانه .

(أما القسم الرابع: وهو استيلاء القوة على قمع الشهوات) وردعها (فلا يخفى تفاوت الناس فيه) بالقلة، والكثرة حتى ترى واحدا كعشرة بل واحدا كمائة وعشرة أخرى، هدر دون واحد (بل لا يخفى تفاوت أحوال الشخص الواحد) في نفسه (وهذا التفاوت تارة يكون لتفاوت الشهوة) في حد ذاتها (إذ قد يقدر العاقل) بقوة عقله (على ترك بعض الشهوات دون بعض) كأن يترك الشهوة الظاهرة ولا يقدر على ترك الشهوة الخفية، (ولكن غير مقصور عليه فإن الشاب قد يعجز عن ترك الزنا) ; لشدة شبقه وثوران شهوته، (وإذا كبر وتم عقله قدر عليه) وارتدع منه بمقتضى السن، (وشهوة الرياء) والسمعة (والرياسة) وما أشبهها (تزداد قوة) وتنمو (بالكبر) أي بالطعن في السن (لا ضعفا) لما ورد: يشيب ابن آدم وتشب فيه خصلتان الحرص وطول الأمل، (وقد يكون سببه التفاوت في العلم المعرف) المبين (لغائلة تلك الشهوة) ومضراتها (ولهذا يقدر الطبيب) الماهر العارف (على الاحتماء عن بعض الأطعمة) والأشربة (المضرة) المؤدية إلى الضرر (وقد لا يقدر) على ذلك، (من [ ص: 466 ] يساويه) ويماثله (في العقل إذا لم يكن طبيبا) ; لعدم معرفته بالخواص والطبائع، (وإن كان يعتقد على الجملة فيه مضرة ولكن إذا كان علم الطبيب أتم) وأكثر (كان خوفه أشد) وأعظم (فيكون الخوف جندا للعقل وعدة له في قمع الشهوات وكسرها) إذ لولا خوفه لما منعه عنها، (وكذلك يكون العالم) العامل بعلمه (أقدر على ترك المعاصي) وكسر شهوتها عنه (من العامي لقوة علمه بضرر المعاصي) وما يترتب عليه منها (وأعني به العلم الحقيقي) الذي علمه لله ولأمر الله، (دون أرباب الطيالسة) جمع طيلسان، وهو كساء أسود مربع، والمراد به علماء الدنيا والقضاة والمخالطون على الملوك والأمراء أصحاب السواري، (وأصحاب الهذيان) محركة، هو الكلام الكثير والمراد به أرباب الجدال، والمناظرات .




الخدمات العلمية