الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( جعل الله الكعبة [ ص: 25 ] البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ) .

مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، وذلك أنه تعالى ذكر تعظيم الإحرام بالنهي عن قتل الوحش فيه بحيث شرع بقتله ما شرع . وذكر تعظيم الكعبة بقوله : ( هديا بالغ الكعبة ) ، فذكر تعالى في هذه الآية أنه جعل الكعبة قياما للناس; أي ركز في قلوبهم تعظيمها بحيث لا يقع فيها أذى أحد ، وصارت وازعة لهم من الأذى ، وهم في الجاهلية الجهلاء لا يرجون جنة ولا يخافون نارا إذ لم يكن لهم ملك يمنعهم من أذى بعضهم ، فقامت لهم حرمة الكعبة مقام حرمة الملك ، هذا مع تنافسهم وتحاسدهم ومعاداتهم وأخذهم بالثأر ، ولذلك جعل الثلاثة المذكورة بعد الكعبة قياما للناس ، فكانوا لا يهيجون أحدا في الشهر الحرام ، ولا من ساق الهدي; لأنه لا يعلم أنه لم يجئ لحرب ، ولا من خرج يريد البيت بحج أو عمرة ، فتقلد من لحي الشجر ، ولا من قضى نسكه ، فتقلد من شجر الحرم . ولما بعثت قريش زمن الحديبية إلى المؤمنين الحلس ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هذا رجل يعظم الحرمة فألقوه بالبدن مشعرة " فلما رآها الحلس عظم عليه ذلك ، وقال ما ينبغي أن يصد هؤلاء ، ورجع عن رسالة قريش ، وجعل هنا بمعنى صير . وقيل : جعل بمعنى بين ، وينبغي أن يحمل هذا على تفسير المعنى ، إذ لم ينقل ( جعل ) مرادفة لهذا المعنى ، لكنه من حيث التصيير ، يلزم منه التبيين ، والحكم . ولما كان لفظ الكعبة قد أطلقه بعض العرب على غير البيت الحرام ، كالبيت الذي كان في خثعم ، يسمى كعبة اليمانية ، بين تعالى أن المراد هنا بالكعبة البيت الحرام ، وهو بدل من الكعبة ، أو عطف بيان . وقال الزمخشري : البيت الحرام عطف بيان على جهة المدح ، لا على جهة التوضيح ، كما تجيء الصفة كذلك انتهى ، وليس كما ذكر; لأنهم ذكروا في شرط عطف البيان الجمود ، فإذا كان شرطه أن يكون جامدا ، لم يكن فيه إشعار بمدح ، إذ ليس مشتقا ، وإنما يشعر بالمدح المشتق إلا أن يقال أنه لما وصف عطف البيان بقوله ( الحرام ) ، اقتضى المجموع المدح ، فيمكن ذلك . والقيام مصدر كالصيام ، ويقال هذا قيام له ، وقوام له ، وكأنهم ذهبوا في قيام إلى أنه ليس مصدرا ، بل هو اسم كالسواك ، فلذلك صحت الواو . قال : قوام دنيا وقيام دين . إذا لحقت تاء التأنيث لزمت التاء . قالوا القيامة ، واختلفوا في تفسير قوله ( قياما للناس ) فقيل باتساع الرزق عليهم ، إذ جعلها تعالى مقصودة من جميع الآفاق . وكانت مكة لا زرع ولا ضرع ، وقيل : بامتناع الإغارة في الحرم ، وقيل : بسبب صيرورتهم أهل الله ، فكل أحد يتقرب إليهم ، وقيل : بما يقام فيها من المناسك ، وفعل العبادات ، وروي عن ابن عباس ، وقيل : يأمن من توجه إليها ، وروي عنه ، وقيل : بعدم أذى من أخرجوه من جر جريرة ، ولجأ إليها ، وقيل : ببقاء الدين ما حجت واستقبلت . وقال عطاء : لو تركوه عاما واحدا لم ينظروا [ ص: 26 ] ولم يؤخروا . وقال أبو عبد الله الرازي : لا يبعد حمله على جميع الوجوه; لأن قوام المعيشة بكثرة المنافع ، وبدفع المضار ، وبحصول الجاه والرئاسة ، وبحصول الدين . والكعبة سبب لحصول هذه الأقسام انتهى .

وقرأ ابن عامر ( قيما ) ، بغير ألف ، فإن كان أصله قياما بالألف وحذفت ، فقيل حكم هذا أن يجيء في الشعر ، وإن كان مصدرا على ( فعل ) ، فكان قياسه أن تصح فيه الواو ، كعوض . وقرأ الجحدري قيما ، بفتح القاف وتشديد الياء المكسورة ، وهو كسيد; اسم يدل على ثبوت الوصف من غير تقييد بزمان ، ولفظ الناس عام فقيل المراد العموم . وقيل : المراد العرب . قال أبو عبد الله بن أبي الفضل ، وحسن هذا المجاز أن أهل كل بلدة إذا قالوا الناس فعلوا كذا ، لا يريدون بذلك إلا أهل بلدتهم ، فلذلك خوطبوا على وفق عادتهم انتهى . والشهر الحرام ظاهره الإفراد ، فقيل هو ذو الحجة وحده ، وبه بدأ الزمخشري قال : لأن لاختصاصه من بين الأشهر المحرمة برسم الحج شأنا قد عرفه الله انتهى . وقيل : المراد الجنس ، فيشمل الأشهر الحرم الأربعة . الثلاثة بإجماع من العرب ، وشهر مضر ، وهو رجب كان كثير من العرب لا يراه ، ولذلك يسمى شهر الله ، إذ كان تعالى قد ألحقه في الحرمة بالثلاثة ، فنسبه وسدده . والمعنى شهر آل الله ، وهو شهر قريش ; وله يقول عوف بن الأحوص :


وشهر بني أمية والهدايا إذا حبست مضرجها الدماء

ولما كانت الكعبة موضعا مخصوصا لا يصل إليه كل خائف ، جعل الله الأشهر الحرم والهدي والقلائد ، قياما للناس كالكعبة .

( ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ) الظاهر أن الإشارة هي للمصدر المفهوم; أي ذلك الجعل لهذه الأشياء قياما للناس وأمنا لهم; ليعلموا أنه تعالى يعلم تفاصيل الأمور الكائنة في السماوات والأرض ، ومصالحكم في دنياكم ودينكم ، فانظروا لطفه بالعباد على حال كفرهم ! . وأجاز الزمخشري أن تكون الإشارة إلى ما ذكر من حفظ حرمة الإحرام بترك الصيد ، وغيره . وقال الزجاج : الإشارة إلى ما نبأ به تعالى من الإخبار بالمغيبات والكشف عن الأسرار ، مثل قوله ( سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك ) . ومثل إخباره بتحريفهم الكتب; أي ذلك الغيب الذي أنبأكم به على لسان رسوله يدلكم على أنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض . وقيل : الإشارة إلى صرف قلوب الناس إلى مكة في الأشهر المعلومة ، فيعيش أهلها معهم ، ولولا ذلك ماتوا جوعا; لعلمه بما في مصالحهم ، وليستدلوا على أنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض .

( وأن الله بكل شيء عليم ) هذا عموم تندرج فيه الكليات والجزئيات ، كقوله تعالى ( وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية