الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ) الكاف للتشبيه في موضع نصب ، والإشارة بذلك إلى فتون سابق ، وقد تقدم ذكر أمم رسل وإرسالهم مبشرين ومنذرين ، وتقسيم أممهم إلى مؤمن ومكذب ، فدل ذلك على أن أتباع الرسل مختلفون وواقع فيهم الفتون لا محالة ، كما وقع في هذه الأمة ، فشبه تعالى ابتلاء هذه الأمة واختبارها بابتلاء الأمم السالفة ، أي حال هذه الأمة حال الأمم السابقة في فتون بعضهم ببعض ، والفتون بالغنى والفقر ، أو بالشرف والوضاعة ، والقوة والضعف . قال الزمخشري : ومثل ذلك الفتن العظيم فتن بعض الناس ببعض ، أي ابتليناهم به وذلك أن المشركين كانوا يقولون للمسلمين ( أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ) أي أنعم عليهم بالتوفيق لإصابة الحق ولما يسعدهم عنده من دوننا ونحن المقدمون والرؤساء وهم العبيد والفقراء ، إنكارا لأن يكون أمثالهم على الحق وممنونا عليهم من بيننا بالخير ، نحو : ( أؤلقي الذكر عليه من بيننا ) ، ( لو كان خيرا ما سبقونا إليه ) ، ومعنى فتناهم ليقولوا ذلك : خذلانهم فافتتنوا حتى كان افتتانهم سببا لهذا القول لأنه لا يقول مثل قولهم هذا إلا مخذول متقول ، انتهى . وآخر كلامه على طريقة المعتزلة من تأويل الفتنة التي نسبها [ ص: 139 ] تعالى إليه بالخذلان جريا على عادته . قال ابن عطية : ابتلاء المؤمنين بالمشركين هو ما يلقون منهم من الأذى ، وابتلاء المشركين بالمؤمنين هو أن يرى الرجل الشريف من المشركين قوما لا شرف لهم قد عظمهم هذا الدين وجعل لهم عند نبيهم قدرا ومنزلة ، والإشارة بذلك إلى ما ذكر من ظلمهم أن تطرد الضعفة . انتهى . ولا ينتظم هذا التشبيه إذ يصير التقدير : ومثل ذلك أي طلب الطرد فتنا بعضهم ببعض ، والذي يتبادر إليه الذهن إنك إذا قلت : ضربت مثل ذلك ، إنما يفهم منه مثل ذلك الضرب لا أنه تقع المماثلة في غيره ، واللام في ( ليقولوا ) الظاهر أنها لام كي ، أي هذا الابتلاء لكي يقولوا هذه المقالة على سبيل الاستفهام لأنفسهم والمناجاة لها ، ويصير المعنى : ابتلينا أشراف الكفار بضعفاء المؤمنين ليتعجبوا في نفوسهم من ذلك ويكون سببا للنظر لمن هدي ، ومن أثبت أن اللام تكون للصيرورة جوز هنا أن تكون للصيرورة ويكون قولهم على سبيل الاستحقاق ، و ( هؤلاء ) إشارة إلى المؤمنين ، و ( من الله عليهم ) أي بزعمهم أن دينهم منه تعالى .

( أليس الله بأعلم بالشاكرين ) هذا استفهام معناه التقرير والرد على أولئك القائلين ، أي الله أعلم بمن يشكر فيضع فيه هدايته دون من يكفر فلا يهديه ، وجاء لفظ الشكر هنا في غاية من الحسن إذ تقدم من قولهم : ( أهؤلاء من الله عليهم ) أي أنعم عليهم ، فناسب ذكر الإنعام لفظ الشكر ، والمعنى : أنه تعالى عالم بهؤلاء المنعم عليهم الشاكرين لنعمائه ، وتضمن العلم معنى الثواب والجزاء لهم على شكرهم فليسوا موضع استخفافكم ولا استعجابكم . وقيل : بالشاكرين من من عليهم بالإيمان دون الرؤساء الذين علم منهم الكفر . وقيل : من يشكر على الإسلام إذا هديته . وقيل : بمن يوفق للإيمان كبلال ومن دونه . وقال الزمخشري : أي الله أعلم بمن يقع منه الإيمان والشكر فيوفقه للإيمان وبمن يصمم على كفره فيخذله ويمنعه التوفيق . انتهى . وهو على طريقة الاعتزال .

التالي السابق


الخدمات العلمية