الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                معلومات الكتاب

                تضمين البنك الإسلامي للودائع الاستثمارية (دراسة فقهية مقارنة)

                الأستاذ / محمد عبد الأول بن محمد مصلح الدين

                المطلب الأول

                تطوع المضارب (البنك الإسلامي) بالضمان

                إذا قـام المـضارب متـبرعا بـضـمـان رأس مـال المـضاربة، فهذا لا يخلو عن حالتين:

                الحالة الأولى: إذا كان تطوع المضارب بتحمل الخسارة مذكورا في العقد، وهذا لا يجوز؛ لأنه يرتبط بمسألة ضمان المضارب بالشرط، وقد سبق أن بينا أن الفقهاء قد اتفقوا على عدم جوازه، وذلك لأنه ينافي مقتضى العقد.

                والحالة الثانية: أن يتطوع المضارب بضمان أموال الاستثمار بمحض إرادته عند التلف أو الخسارة بعد العقد، دون اشتراط سابق [1] .

                هذا، والمقصود بتطوع أو تبرع المضارب بالضمان: "تبرع المضارب بتحمل الخسارة بدون أن يكون هذا شرطا أو عرفا؛ لأن المعروف عرفا كالمشروط شرطا" [2] .

                ففي هذه الحالة اختلف فقهاء المالكية، فمنهم من قال بالمنع، وهم الأكثر، ومنهم من قال بالجواز. [ ص: 138 ]

                فنقل الحطاب في "مواهب الجليل": "لو تطوع العامل بضمان المال، ففي صحة القراض خلاف بين الشيوخ، فذهب ابن عتاب إلى أنه صحيح، وحكى إجازته عن شيخه مطرف ابن بشير [3] ، وقال غيرهما: لا يجوز" [4] .

                وجاء في "حاشية الدسوقي": "لو تطوع العامل بالضمان ففي صحة ذلك القراض وعدمها خلاف" [5] .

                وجاء في "إيضاح المسالك": "فلو تبرع بالضمان، وطاع به بعد تمام الاكتراء، لجاز ذلك. قيل له: فيجب على هذا القول بالضمان في مال القراض إذا طاع به قابضه بالتزام الضمان؟ فقال: إذا التزم الضمان طائعا بعد أن شرع في العمل، فما يبعد أن يلزمه" [6] .

                وكذا جاء في شرح ميارة على "تحفة الحكام": "أما إن تطوع به بعد العقد ففي لزومه رأيان للشيوخ باللزوم وعدمه" [7] . [ ص: 139 ]

                وعلى هـذا، أجـازه بـعض فـقـهـاء المـالـكية كأبي المطـرف ابن بشير، وابن عتاب، ومن المعاصرين عبد الله العـمراني [8] ، وأحمد الكليب [9] ، وعلي محي الدين القره داغي [10] . قال ابن رشد: "إن العقد إذا سلم من الشرط، وكان أمرا طاع به بعده على غير رأي ولا مواطأة، فذلك جائز، لا بأس به؛ لأنه معروف طاع به وأوجبه على نفسه، لا مكروه فيه" [11] .

                وهذا القول أخذت به بعض الهيئات الشرعية، فقد جاء في فتاوى المستشار الشرعي لمجموعة البركة - الجزء الأول- فتوى رقم (44) ما نصه: "لا مانع من أن تكون هناك مبادرة من العميل بتحمل ما قد يقع من خسارة في حينها لا عند التعاقد؛ لأن ذلك من قبيل الهبة والتصرف من صاحب الحق في حـقـه، دون تغيير لمقتـضى العـقـد شرعا... ولا يجوز أن يتخذ ذلك حيلة أو وسيلة للدخول في المضاربة، بل يترك العميل بمطلق رغبته" [12] . [ ص: 140 ]

                والمتأمل في هذه الفتوى يجد أنها راعت عددا من الشروط لصحة تطوع المضارب بالضمان، وهي:

                أولا: أن يكون تبرع المضارب بالضمان بعد وقوع الخسارة، وليس عند إجراء العقد، لا تصريحا ولا تلميحا.

                ثانيا: إن تطوع العامل بتحمل الخسارة يعد من قبيل التبرع المحض، ومن ثم فلا يصح شرعا إجباره عليها.

                ثالثا: ألا يكون التبرع بالضمان مما يعد تحايلا؛ لأن مثل هذا التطوع يكون ذريعة إلى الربا المحرم [13] .

                رابعا: "ألا يتكرر التطوع؛ لأن تكرره يعني أنه أصبح عرفا، فأصبح كالمشروط، فلا يصح" [14] .

                كما أن شبكة إسلام ويب, قد أفتت بجواز تطوع المضارب بعد العقد بضمان رأس المال من غير شرط ولا عرف، إذ أنه لا ينافي مقتضى عقد المضاربة، وبالتالي فلا بأس به [15] . [ ص: 141 ]

                ومن الجدير بالذكر أن الدكتور قطب سانو، قد عد تبرع المضارب بالضمان من باب النذر، بناء على أن الصيام في غير رمضان ليس بواجب، ولكنه يغدو واجبا عند ما ينذر المرء بذلك. ومن ثم، فإذا التزم المضارب بضمان مال المضاربة، فإنه يجب عليه الوفاء بما تعهد به؛ لأنه لم يرد نص صـريح من الـكتاب والسـنة يـنـهي عن هـذا الأمر، ويتـوعد فاعـله بالعـقاب أو العتاب [16] .

                ويمكن الاعتراض عليه بأن تبرع المضارب من قبيل الإحسان، فلا يلزم به، قـال تعالى: ( ما على المحسنين من سبيل ) (التوبة:91). أما النـذر فهـو مـمـا أقـرتـه الشـريعة للعمل به تقربا إلى الله، عز وجل، فيما لـم تلزمه الشريعة على الناس.

                وذهب بعض فقهاء المالكية إلى صحة تطوع المضارب بالتزام الضمان عند العقد لا بعده. فجاء في "إيضاح المسالك", للونشريسي: "ونقل ابن عتاب عن شيخه أبي المطرف بن بشير: أنه أملى عقدا بدفع الوصي مال السفيه قراضا إلى رجل على جزء معلوم، وأن العامل طاع بالتزام ضمان المال وغرمه، فصححه ابن عتاب ونصره بحجج بسطها، وأدلة قررها، ومسائل [ ص: 142 ] استدل بها، وقال بقوله فيها، واعترض غيره من الشيوخ ذلك وأنكروه، وقالوا: التزامه غير جائز" [17] .

                ويمكن الإجابة عنه: بأن تطوع المضارب بالتزام الضمان عند العقد، وإن كان يعد ضمن قاعدة: "الناس مسلطون على أموالهم"، لكن لا بد أن تتقيد حرية تصرف المضارب بالتصرفات المشروعة دون الفاسد منها. ولا شك أن تبرع المضارب بالضمان عند التعاقد يغير ماهية القراض إلى القرض؛ لأن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني [18] .

                بينما ذهب جمهور فقهاء المالكية إلى المنع. وقد نقل الدكتور محمد الجمال, في بحثه "عمليات التحوط وتطبيقاتها في المصرفية الإسلامية وأحكامها الشرعية" نصوصا عن فقهاء المالكية تدل على عدم جواز تبرع المضارب بالضمان. قال الرهوني: "وكلامهم يفيد أن القولين متساويان، وليس كذلك، بل القـول بالمنـع هو الظـاهر، نقلا ومعنى. أما نقلا فلقـول صـاحـب المعين ما نصه: "إذا طاع العامل بضمان المال امتنع ذلك عن الأكثر، وأجازه القاضي أبو المطرف ووافق عليه ابن عتاب "أ.هـ" منه بلفظه، وأما معنى فلأن ذلك هدية من العامل لرب المال" [19] . [ ص: 143 ]

                كما بين الرهوني علة المنع بقوله: "لاحتمال أن يكون تبرعه بعد الشروع في الضمان إنما هو لأجل أن يبقى المال بيده بعد نضوضه، وهذه هي علة حرمة هديته بعد الشروع فتأمله بإنصاف" [20] .

                ومما تـجـدر الإشـارة إليه أن الـواقـع يشـهد الخلل في تطبيق هذه الأداة في بعض المـؤسـسـات والبـنـوك الإسـلامية، وذلك بانعـقـاد عقد المضاربة بينها وبين المستثمرين، وفي نفس الوقت يوقع المضارب بالتبرع بالضمان في ورقة مـنـفـصـلـة عن العـقـد، فـهـذا مـمـا يعـتد خـداعا وتحايلا؛ لأن هذا التبرع أصبـح ذريعـة إلى الربا المـحـرم؛ بما علم أن العبرة في العقود بالمعاني والمقاصد لا بالألفاظ والمباني [21] .

                وفي ضـوء ما سبق، يـمكن القول بعدم جواز تطوع المضارب بضمان رأس المال ولو بعد العقد في حالة خسارة المشروع أو هلاكه، مخافة ارتباط ضمـان المـضـارب بـمـصلحة هي اسـتـمرار العـقـد كي لا يشبه الضمان بالهدية من البنك الإسلامي لأصحاب الأموال، وقد بات أنها ممنوعة في الشرع، هذا والله أعلم. [ ص: 144 ]

                التالي السابق


                الخدمات العلمية