الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                المطلب الثالث

                أنواع الودائع المصرفية

                في البنوك الإسلامية وتكييفها الشرعي

                تتنوع الودائع المصرفية في البنوك الإسلامية إلى نوعين رئيسين، هما:

                الودائع الجارية (تحت الطلب)، والودائع الاستثمارية [1] .

                أولا: تعريف الودائع الجارية وتكييفها الفقهي:

                أ - تعريف الودائع الجارية:

                عرفت الودائع الجارية [2] بأنها: "المبالغ، التي يضعها صاحبها في المصرف، ويـحـق لـه سحـبـها وتـداولهـا في أي وقـت شاء، سواء كان السحب نقدا، [ ص: 43 ] أو عن طريق استعمال الشيكات، أو أوامر التحويلات المصرفية لعملاء آخرين" [3] .

                وصورتها: كأن يقوم صاحب المال بفتح حساب جاري في مصرف إسـلامي لوضـع ماله فيـه، لغرض حفظ هذه الأموال وصيانتها من السرقة أو الهلاك، أو لغرض تسهيل التعامل التجاري والمعاملات المصرفية الأخرى، التي تقدمها هذه المصارف، ثم طلبها عند الحاجة إليها، دون الاضطرار إلى حمل النقود [4] .

                ب- التكييف الفقهي للحساب الجاري:

                اختلفت آراء الفقهاء والباحثين المعاصرين في ذلك على أقوال، أشهرها اثنان:

                القول الأول: ذهب البعض إلى أن الحساب الجاري وديعة حقيقية، بالمعنى الفقهي [5] . [ ص: 44 ]

                وممن اتجه إلى هذا حسن الأمين [6] ، وغيره [7] .

                القول الثاني: ذهب الجمهور [8] إلى أن الودائع الجارية قروض، المودع: المقرض، والمصرف هو المقترض، ولذلك لا يلتزم المصرف بحفظ عين الوديعة بل يستخدمها، فيتحمل مخاطره.

                وبه صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي ( 90 / 3 /د9)، ونصه: "الودائع تحت الطلب (الحسابات الجارية) سواء أكانت لدى البنوك الإسلامية [ ص: 45 ] أو البنوك الربوية هي قروض بالمنظور الفقهي، حيث إن المصرف المتسلم لهذه الودائع يده يد ضمان لها، هو ملزم شرعا بالرد عند الطلب، ولا يؤثر على حكم القرض كون البنك (المقترض) مليئا" [9] .

                ج- الأدلة:

                أولا: أدلة القول الأول: القائلون بأن الودائع الجارية هي وديعة حقيقية استدلوا بما يلي:

                1 - أن الوديعة بالمعنى الفقهي يقصد منها الحفظ والرد عند الطلب، وهذا المعنى متحقق في الوديعة الجارية، فالمبلغ الذي يودعه العميل هو تحت طلبه، ويسحب منه متى شاء، في الوقت الذي يختاره، وتصرف المصرف في الوديعة لا يخرجها عن كونها وديعة حقيقية؛ لأنه تصرف مأذون فيه، وحتى لو لم يكن التصرف مأذونا فيه وتصرف فيه المصرف لم تخرج عن كونها وديعة [10] .

                2 - أن هذا التكييف فيه تحقيق لمصلحة العميل، صاحب الوديعة الجارية؛ لأن تكييفها على أنها قرض فيه مخاطرة، وتعريضه للضياع، وذلك في حالة إفلاس المصرف لأي سبب من الأسباب؛ لأن العميل إذا عد مقرضا للمصرف, فإنه يدخل بحصته منافسا مع الغرماء الآخرين من أصحاب القروض وغيرهم، بخلاف ما لو اعتبرت الودائع الجارية وديعة حقيقية، فإنه في [ ص: 46 ] مثل هذه الحالة يكون له الحق بأخذ وديعته، أولا باعتبارها أمانة، من غير أن يدخل منافسا بحصته مع غرماء آخرين [11] .

                3 - أن العميل لم يقصد القرض إطلاقا، ولم تتوجه إرادته من الإيداع نحو القرض، كما أن المصرف لا يستلم الأموال على أنها قروض [12] .

                ثانيا: أدلة القول الثاني: القائلون بأن الودائع الجارية هي قروض احتجوا بما يأتي:

                1 - أن المصرف يتصرف في الودائع الجارية، ويلتزم برد مثلها عند الطلب، وهذه حقيقة القرض، فلو كانت وديعة بالمعنى الفقهي لما جاز للمصرف التصرف فيها [13] .

                2 - أن المصـرف يضمن هـذه الودائع إذا تلفت، فرط أم لم يفرط، ولو كانت وديعة بالمعنى الفقهي لما ضمنها إلا في حالة التفريط [14] .

                3 - أن معظم قوانين الدول العربية قد نصت على أن الودائع بالحساب الجاري قروض، فلقد جاء في المادة (889) من القانون المدني الأردني: "إذا كانت الوديعة من النقود أو شيئا يهلك بالاستعمال، وأذن المودع للمودع لديه في استعماله اعتبر قرضا؛ وكذا نصت المادة (726) من القانون المصري، [ ص: 47 ] والمادة (402) من القانون السوري المدني، والمادة (223) من القانون المدني الليبي، والمادة (670) من القانون المدني التونسي على مثل ما جاء في القانون المدني الأردني" [15] .

                - القول المختار:

                بعد عرض القولين وأدلتهما، يبدو لي -والله أعلم- أن القول الثاني هو الراجح، وذلك لما يأتي:

                أولا: أن صـاحـب المـال إذا وضـعـه في حسـاب جار لا يقـصـد مجرد الحفظ فقط، بل يريد الحفظ والضمان معا، بدليل أنه لن يقدم على الإيداع ما لم يكن المال مضمونا، وكذلك المصرف لا يقبل هذه الأموال لحفظها فقط، بل للانتفاع بها مع ضمانها، وهذا لا يتأتى إلا بالقرض [16] .

                ثانيا: أن صاحب الوديعة الجارية يعلم أن المصرف، الذي يتلقى ماله لن يحفظه في صناديقه ليعيده بعينه عند الطلب، بل إنه سوف يخلط بغيره من الأموال وبأموال المصرف، فيستعملها في أعماله واستثماراته، وهذا يعني أن المصرف لن يعيد عين المال، بل يعيد مثله عند الطلب، وهذه هي سمة القروض [ ص: 48 ] لا الودائع [17] . وهنا القاعـدة المشـهورة: "العبـرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني".

                ثانيا: تعريف الودائع الاستثمارية وتكييفها الشرعي:

                أ- تعريف الودائع الاستثمارية:

                وهي الأموال، التي يودعها أصحابها لدى المصارف الإسلامية، بغرض المشاركة في الربح والخسارة، من خلال قيام المصرف باستثمارها، سواء بمفرده أو بمشاركة غيره من المستثمرين, طبقا للقاعدة الشرعية: ( الغنم بالغرم ) [18] .

                ب: أنواع الودائع الاستثمارية:

                تتنوع حسابات الاستثمار في البنوك الإسلامية إلى نوعين: حساب الاستثمار العام وحساب الاستثمار المخصص، وفيما يأتي بيان ذلك.

                فحساب الاستثمار العام، يمكن التعرف عليه من الاطلاع على أنواعه الثلاثة:

                الأول: الودائع الادخارية (حسابات التوفير):

                وهي الأموال، التي تقدم للمصارف الإسلامية من قبل صغار وكبار المـودعـين جميعا، وعادة ما يسمح لصاحب هذا النوع من الحسابات بالسحب من حسابه بشروط معينة تتعلق بحدود المبلغ المسحوب، والزمن، [ ص: 49 ] بقصد المشـاركة في الربح والخـسـارة، وفـقـدان المبلغ المسحوب حقه في المشاركة بالأرباح [19] .

                والقصد من حسابات التوفير: هو تشجيع المستثمرين على المشاركة في عمليات الاستثمار. وفي هذا النوع من الحسابات لا يتم إشراك جميع المبلغ المودع في الحساب في عملية الاستثمار، بل يتم تشغيل نسبة معينة منه فقط، وعادة ما تكون نسبة التشغيل تقارب النصف من المبالغ، التي تم إيداعها، والباقي يعتبر على سبيل القرض، وذلك لمواجهة المبالغ التي يتم سحبها [20] .

                الثاني: حسابات الاستثمار تحت إشعار:

                وهي الحسابات، التي تجمع بين رغبة المودع في الاستثمار وحاجته لسحب نقوده، لكنها لا تسحب إلا بإخطار مسبق مما يتيح للمصرف إمكانية أن يستثمرها بنسب أكبر، مقارنة بحسابات التوفير [21] .

                الثالث: حسابات الاستثمار لأجل:

                وهي حسابات لا يحق للمودع سحبها من المصرف إلا بعد مرور مدة اتفق عليها العميل والمصرف. فمن الطبيعي أن تزداد قدرة البنك على [ ص: 50 ] الاستثمار كلما زاد حجم الودائع وزادت مدة بقائها فيه. وعليه فهذه الحسابات تعتبر من أهم مصادر تمويل عمليات البنوك الإسلامية [22] .

                أما حسابات الاستثمار المقيدة: وهي الحسابات، التي يختار فيها العميل المودع نوع الاستثمار ليقوم البنك الإسلامي باستثمار هذه الأموال من خلاله، فلا يجوز للمصرف أن يستعملها في مشروعات أو أوجه أخرى. وبناء على هذا فإن المودع سيستحق نصيبه من أرباح ذلك المشروع، الذي اختاره فقط بالنسبة المتفق عليها بينه وبين المصرف [23] .

                ج- التكييف الفقهي للودائع الاستثمارية:

                تكيف الودائع الاستثمارية (حسابات الاستثمار العام والمخصص) في البنوك الإسلامية على أنها مضاربة، تخضع للربح والخسارة، فيكون المصرف الإسلامي هو المضارب، بينما يكون المودعون هم أصحاب الأموال. ومن ثم توزع الأرباح بين المودعين باعتبارهم أصحاب الأموال، وبين المصرف باعتباره مضاربا.

                وقد نص مجمع الفقه الإسلامي الدولي, كما صدر في القرار رقم ( 90 / 3 /د9) على أن: "الودائع، التي تسلم للبنوك الملتزمة فعليا بأحكام الشريعة الإسلامية بعقد استثمار على حصة من الربح هي رأس مال مضاربة، وتنطبق عليها أحكام المضاربة (القراض) في الفقه الإسلامي، التي منها عدم جواز ضمان المضارب (البنك) لرأس مال المضاربة" [24] . [ ص: 51 ]

                التالي السابق


                الخدمات العلمية