الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                معلومات الكتاب

                تضمين البنك الإسلامي للودائع الاستثمارية (دراسة فقهية مقارنة)

                الأستاذ / محمد عبد الأول بن محمد مصلح الدين

                المطلب الثاني

                حكم ضمان البنك الإسلامي للودائع الاستثمارية

                إن حكم ضمان البنك الإسلامي لأموال المستثمرين يرتبط بطبيعة العلاقة بين البنك الإسلامي وبين المودعين من جهة، وبينه وبين رجال الأعمال من جهة أخرى. ومن هنا لابد من تحديد علاقة البنوك الإسلامية بكل من المودعين والمستثمرين من رجال الأعمال.

                ومن ثم يشتمل هذا المطلب على فرعين:

                الفرع الأول: تحديد علاقة المصرف الإسلامي بكل من أصحاب الأموال ورجال الأعمال.

                الفرع الثاني: حكم ضمان البنك الإسلامي للودائع الاستثمارية.

                وفيما يأتي تفصيل ذلك: [ ص: 76 ]

                الفرع الأول: تحديد علاقة المصرف الإسلامي بكل من أصحاب الأموال ورجال الأعمال:

                من المعلوم أن المصارف تقسم حسابات الاستثمار إلى حسابات الاستثمار المقيدة، وحسابات الاستثمار المطلقة.

                ويراد بـحسـابات الاستـثـمار المـقـيـدة: الأموال الـتي يودعـها المودعون في المصـرف، ويـقـيـدونه بـبـعـض الشـروط، كأن يستثـمرها في مشروع معين، أو لغرض معين، أو لا يـخلطها بأمـواله، أو يكون الاستثمار في مجال معين، في مشروع أو قطاع معين، أو في بلد معين، وقد تكون الشروط خارجة عن مجال الاستثمار، كالمنع من البيع المؤجل، أو بدون رهن أو كفيل، أو أن يباشر المصرف بنفسه استثمار ودائعهم دون استثمارها عن طريق دفعها للغير مضاربة، أو غير ذلك [1] .

                وبالتالي؛ "فإنه لا يشـارك في نتائج السلة العامة لاستثمارات البنك، وإنما يرتبط مصـير وديعته، ربحا أو خسـارة، بمـصـير السـلة الخاصة بالمشروع أو القطاع أو البلد، الذي خصص له وديعته" [2] . [ ص: 77 ]

                وهذه هي حقيقة المضاربة المقيدة، التي يقيد فيها رب المال المضارب ببعـض القـيـود والشـروط، التـي يراها مناسبـة، وقد جـوز الفقهاء لرب المـال أن يقيد تصرفات المضارب بكل ما هو معتبر ومفيد، بشرط أن لا يؤدي ذلك إلى منع العمل، وعليه؛ فإن المصرف ملتزم بالشروط، التي يمليها أصحاب الودائع الاستثمارية [3] .

                وقد اختلف الباحثون المعاصرون في تكييف علاقة المصرف بالمودعين في حالة حسابات الاستثمار المقيدة على قولين:

                القول الأول: يرى أصحابه أن المصرف الإسلامي إذا أخذ هذه الأموال من أصحابها على أنه مضارب كان شريكا في الربح عـلى حسب النسب المتفق عليها، فإذا ربح استحق تلك النسبة، وإذا لم يربح لم يكن له شيء، وأما إذا أخذها بعقد الوكالة، فإنه يستحق عمولة مقطوعة، ربح أو لم يربح، ولذلك كان أخذها بعقد المضاربة أولى لأصحاب هذه الأموال؛ لأنه سيجتهد في نجاح المشاريع المستثمرة ليحقق نسبة الربح المتفق عليها، أما في حالة كونه مجـرد وكيل فإنه سيأخـذ الأجـر عن الوكالة، بغض النظر عن نـجاح المشـاريع أو عدم نجاحها [4] . [ ص: 78 ]

                القول الثاني: يذهب أصحابه، إلى أن العلاقة أقرب إلى الوكالة منها إلى المضاربة؛ إذ يتحمل المودع صراحة مخاطر الاستثمار من ربح أو خسارة، وللبنك أجر ثابت - على أساس الوكالة- [5] .

                مما تقدم، من الرأيين، ما بين المضاربة المقيدة والوكالة في بيان علاقة المصرف بالمودعين في حسابات الاستثمار المقيدة، يبدو لي - والله أعلم- أن كلاهما يتناسب المودعين، فهم الذين يختارون أيهما أنسب لهم بعد النظر في نوع الاستثمار.

                أما حسـابات الاستـثـمار المـطـلـقـة بـمـا في ذلك؛ (حسـابات التـوفـير، وتـحت إشعار، ولأجل)، فهي: "الأموال التي يعطي أصحابها الحق للمصرف في استثمارها على الوجه، الذي يراه مناسبا، دون تقييدهم له باستثمارها بنفسـه، أو في مشـروع معـين، أو لغرض معـين، أو بكيفـيـة معيـنـة، ويأذنون له بخلطها بأمواله الذاتية...." [6] .

                وبالـتـالي فـالمـصـرف بحسابات الاستثمار المطلقة يدخل في جميع نشـاطـاتـه الاستـثـمارية من خلال صيغ التمـويل الإسـلامية المتنوعة، كالمضاربة والمشاركة العادية والمنتهية بالتمليك، والإجارة العادية والمنتهية [ ص: 79 ] بالتمليك، والمرابـحة والسلم والاستصناع وغير ذلك، دون التقيد بنشاط معين أو كيفية معينة [7] .

                وقد اختلف الباحثون المعاصرون في تحديد علاقة البنك الإسلامي بكل من أصحاب الأموال ورجال الأعمال من المستثمرين على عدة أقوال:

                القول الأول: يذهب أصحابه إلى أن أصحاب الأموال من المودعين، في مجموعهم لا فرادى، هم أرباب الأموال، والبنك هو المضارب مضاربة مطلقة، يستحق توكيل غيره في استثمار هذه الأموال. أما علاقته من رجال الأعمال وأرباب التجارة، فإن المصرف هو رب المال، وأصحاب المشروعات الاستثمارية ومن على شاكلتهم هم المضاربون [8] .

                ومن هنا، تقوم العلاقة التمويلية بين المصرف الإسلامي وعملائه على أساس المشاركة في الربح والخسارة بناء على مبدأ ( الغنم بالغرم ) وهذا يعني أن التمويل الإسلامي لا يجعل المخاطر عند طرف واحد، فالمغانم والمغارم موزعة على أطراف العملية الاستثمارية، وليس على طرف واحد، إذ لا يصح أن يضمن الإنسان لنفسه مغنما ويلقي المغرم على عاتق غيره [9] . [ ص: 80 ]

                وبهذا الصدد، يقول الدكتور محمد علي القري: "إن أساس عمل المصرف الإسلامي في نظر المؤسسين هو الشركة والمضاربة، فهو يأخذ الأموال من الناس على أساس عقد القراض ثم يقدمها إلى من يعمل فيها على أساس الاشتراك في الربح والخسارة بعقود المضاربة والمشاركة وغيرها" [10] .

                وأخذ بهذا الرأي كثير من المصارف الإسلامية، عند صياغة النظام الأساسي وأساليب العمل الخاصة بها، كما ذهبت هيئات الرقابة الشرعية بعدد من المصارف الإسلامية أيضا، إلى تبني هذا الرأي في فتاواها [11] .

                وهذا ما قرره مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي بخصوص حسابات الاستثمار المطلقة, كما ورد في القرار رقم (122 ( 5 / 13 ): "المودعون بمجموعهم هم أرباب المال، والعلاقة بينهم -بما فيهم المضارب إذا خلط ماله بـمـالـهم - هي المشـاركة، والمتـعهد باستثمار أموالهم هو المضارب، سواء أكان شخصـا طبيعيا أم معنويا، مثل المصارف والمؤسسات المالية، والعلاقة بينه وبينهـم هي المضـاربة (القراض)؛ لأنه هو المنوط به اتخاذ قرارات الاسـتـثـمار والإدارة والتنـظيـم. وإذا عهـد المـضارب إلى طرف ثالث [ ص: 81 ] بالاستثمار فإنـها مضاربة ثانية بين المضارب الأول وبين من عهد إليه بالاستثمار، وليست وساطة بينه وبين أرباب الأموال (أصحاب الحسابات الاستثمارية)" [12] .

                ويمكن مناقشته على: أن القائلين بهذا الرأي قد جعلوا العلاقة التعاقدية ما بين البنك الإسلامي وبين رجال الأعمال من أصحاب المشاريع المختلفة في علاقة واحدة وهي المضاربة، لكنها في الأصل تمتد، من الناحية النظرية، فتشمل عددا من الصيغ الأخرى كالمرابحة والإجارة والسلم وغيرها من العقود، وإن كان الواقع العملي يشهد أن المضاربة أصبحت الآن تاريخا، وأن المعمول به في المصرف هو التورق، للأسف الشديد.

                القول الثاني: يذهب أصحابه إلى تكييف العلاقة بين المصرف الإسـلامي وبين المودعـين من أصحـاب الأمـوال, وبينه وبين المستثمرين من رجـال الأعمـال على أنـها "مضاربة مشتركة"، وليسـت مضـاربة فردية أو خـاصة؛ لأن المضـاربة بالشكل المبين في المؤلفات الفقهية أمر يتعذر تطبيـقـه عمـليا في نظـام المصرف الإسلامي وطبيعة نشاطـتـه [13] . وذلك أن [ ص: 82 ] الفقـهاء تناولوا المـضاربة في مدوناتـهم الفقـهيـة ثنائية ولـيـسـت مشـتـركة: منها ما ذكره فقهاء الحنفية بأنها: "عقد شركة في الربح بمال من جانب وعمل من جانب" [14] .

                وأما فقهاء المالكية، فعرفوها بأن: "... يعطي الرجل الرجل المال على أن يتجر به على جزء معلوم يأخذه العامل من ربح المال، أي جزء كان مما يتفقان عليه، ثلثا، أو ربعا، أو نصفا..." [15] .

                وعرفها فقهاء الشافعية بقولهم: "أن يدفع إليه مالا ليتجر فيه والربح مشترك" [16] .

                وأما فقهاء الحنابلة، فقد عرفوها بقولهم: "أن يدفع رجل ماله إلى آخر يتجر له فيه، على أن ما حصل من الربح بينهما حسب ما يشترطانه" [17] .

                وقد اقترح الدكتور سامى حمود، صورة جديدة للمضاربة وسماها "المضاربة المشتركة" وهي التي تضم ثلاثة أطراف. [ ص: 83 ]

                الطرف الأول: وهم المودعون، الذين يقدمون الأموال للمصرف بصورة انفرادية للعمل به مضاربة.

                الطرف الثاني: وهم المضاربون من رجال الأعمال، وأصحاب المشروعات، وهم الذين يأخذون المال من البنك بصورة انفرادية أيضا؛ ليعمل كل واحد منهم حسب الاتفاق الخاص به.

                الطرف الثالث: وهو الشخص أو الجهة، التي تكون مهمتها التوسط بين الفريقين السابقين، فيتمثل دوره في جمع الأموال من المودعين من الفريق الأول، وإعطائها للراغبين في الاستثمار من الفريق الثاني للعمل فيها بالمضاربات المعقودة مع كل منهم على انفراد [18] .

                وبالتالي؛ فلا فرق بين المضاربة المطلقة في القول الأول، وبين المضاربة المشتركة في هذا القول؛ لأن صاحب هذا الرأي قد بين مفهوم وساطة المصرف الإسلامي بين العملاء وبين المضاربين الفعليين، وهذا نص ما قاله: "....فإن أهميته تتمثل في صفته المزدوجة، التي يبدو فيها مضاربا بالنسبة للمستثمرين (وهم أصحاب الأموال) من ناحية، كما أنه يبدو كمالك المال بالنسبة للمضاربين من ناحية ثانية" [19] . وهذا ما أكده عند تعقيبه على نص محمد باقر الصدر، بقوله: "... وإننا -مع اتفاقنا مع الأستاذ الكريم فيما يراه من ناحية [ ص: 84 ] اعـتـبـار البنـك وسيـطا- إلا أن ذلك لـم يـخـرج به عن كونـه مضـاربا، أو هو -وسيط مضاربة- على سبيل الجمع بين الصفتين" [20] .

                وعلى هذا؛ فإطلاق صفة الوسيط على المصرف المضارب بدل المضارب، والإتيان بكلمة المشترك مكان المطلق، وتطبيق مصطلح "المضارب المشترك" محل المضارب المطلق, هذا لا يعني أنه يغير دور المصرف وهو أنه عامل في أموال المودعين على مبدأ الغنم بالغرم، أو بمعنى آخر: على المشاركة في الربح والخسارة.

                ومن هنا؛ فلا داعي إلى اختراع مصطلح "المضاربة المشتركة"، طالما أن المضاربة المطلقة تؤدى نفس الغرض.

                القول الثالث: يذهب أصحابه إلى أن المصرف يعد وسيطا ووكيلا بين أصحاب الأموال وبين رجال الأعمال؛ ذلك أن المصرف ليس عنصرا أساسيا في عقد المضاربة؛ لأنه ليس صاحب رأس المال، ولا صاحب العمل، فتتمثل مهمته في تجميع أموال المودعين، ثم دفعها إلى رجال الأعمال [21] .

                وبـناء علـى هـذا؛ المـودع هـو (رب الـمال)، والمـسـتـثـمر هو (العامل أو المضارب)، أما البنك فهو وسيط بين الطرفين، ووكيل عن صاحب المال في الاتفاق مع العامل [22] . [ ص: 85 ]

                وهذه الوساطة من قبل البنك تعد خدمة يقدمها لرجال الأعمال، ومن حقه أن يطلب مكافأة عليها على أساس الجعالة [23] .

                ويؤكـد الدكـتـور رفـيـق المـصري أن البنك يعـتبـر وسـيـطا ووكيلا، ويقول: "...هناك تكييف قانوني أفضل وأكثر ملاءمة بحيث لا نحتاج إلا لعقد شـركة واحـد يـكون فيه رجال الأعمال المستفيدون عمالا مضاربين، والمودعون أرباب مال يتحـركون من خـلال البـنـك كوسيـط أو وكيـل بأجر أو بعمولة..." [24] .

                ويرفـض الأستـاذ الدكتور جمال الدين عطية أن تكون العلاقة بين المصـرف والمودعـين عـلاقة مضاربة، وإنما هي علاقة عقد وكالة، إذ يعتبر البنك بـمثابة الـوكيـل عـن المـودع في استـثـمـار أمـوالـه مع تفويضه في الاستثمار وخـلط الأموال، فيكون له مبلغ مقطوع بدلا من نسبة الأرباح كما في حالة المضارب [25] .

                ويقول: "إن تطبيق أحكام عقد المضاربة على علاقة المودع بالبنك في حالة الوديعة العامة يصطدم بعدة اعتبارات... منها: أن التوافق بين المبلغ الذي أودعه المودع والمدة التي يريد الإيداع خلالها، وبين مبلغ ومدة إحدى [ ص: 86 ] العمليات الاستثمارية أمور تكاد تكون مستحيلة الوقوع في العمل... فأساس عمل البنك أن الودائع تصب في سلة عامة أشبه بالنهر الجاري الذي تأخذ منه قنوات الاستثمار المختلفة" [26] .

                ويمكن مناقشة هذا القول: بأن اعتبار المصرف وسيطا ما بين المدخرين والمستثمرين لا يعني أن البنك الإسلامي يخرج عن دائرة المضاربة إلى عقد الوكالة؛ لأن أصحاب الأموال أودعوها في المصارف لاستثمارها على أساس المشاركة في الربح والخسارة، وعليه؛ فإنه ينبغي اعتبار المصرف عاملا لا غير، ومن حق هذا العامل، ما دامت المضاربة مطلقة، أن يستثمر بغيره من العمال أو التجار للاستثمار أموال المودعين بطرق مختلفة كمرابحة أو شركة أو مضاربة أو غير ذلك، مما يلتزم به كل واحد منهم [27] .

                ولو قلنا بعقد الوكالة بدلا من المضاربة؛ فإن آثار العقد الثاني بين البنك وبين رجال الأعمال من المستثمرين, سترجع إلى الموكل وهم المودعون، وهـذا مما لا يرضاه أي طرف من الأطراف الثلاثة. كما أن التعريفات التي أوردناها بالنـسـبـة للودائـع الاستثمـارية لا تـخرج عن عقـد المضـاربة؛ لأنها وإن كان فيها معنى الوكالة، فإنها ليست وكالة، ومن ثم؛ فلا يصح اعتبار علاقة المصرف بالمودعين علاقة وساطة خالية عن المضاربة، ولا علاقة الوكالة فقط. [ ص: 87 ]

                وفي ضوء الآراء السابقة ومناقشتها، فإني أميل إلى أن علاقة المصرف بالمدخرين هي علاقة مضاربة، بحيث يكون أصحاب الأموال من المودعين هم أرباب المال، والبنك هو المضارب مضاربة مطلقة. وعلاقة المصرف من رجال الأعمال وأرباب التجارة هي علاقة مضاربة أيضا، بأن يكون المصرف هو رب المال، وأصحاب المشروعات الاستثمارية هم المضاربون. ويمكن أن تتنوع علاقة المصرف حسب توظيف الأموال مع المستثمرين من خلال صيغ تمويل إسلامية إلى مضاربة أو شركة أو مرابحة أو سلم أو سوى ذلك.

                ومن الجـديـر بالذكر, أن الـودائـع في (حسـابـات الاستـثـمار المطلقة أو المقيدة) لا تستخدم كلها في عمليات الاستثمار، التي تقوم بها المصارف الإسلامية. فالنصف أو الثلثان (50% أو 70%) تستعمل في أنشطة الاستثـمار، والـباقي يـبقى في المـصرف، وبالتالي فإن الأجزاء، التي تدخل في الاستثمار من حسـابات الاستثـمار المـطلقة والمقـيـدة هي أموال قراض -كما سبق ترجيحه- فتـشارك في نـتـائجـه من ربح أو خسارة. بينما الأجزاء المشترط عدم مشـاركتها في المـضاربة من الودائع الاستثمارية هي قـروض عـلى البـنوك الإسلاميـة شأنـها فـي ذلك شـأن الودائـع في الحسابات الجارية [28] . [ ص: 88 ]

                الفرع الثاني: حكم ضمان البنك الإسلامي للودائع الاستثمارية:

                بناء على ما سبق من اختلاف في وجهات نظر الباحثين المعاصرين في تحديد العلاقة التعاقدية بين المصارف الإسلامية وبين المودعين من جهة، وبينها وبين المستثمرين من جهة أخرى، فقد ذهب البعض إلى ضمان المصرف للودائع الاستثمارية في كل الأحوال والظروف، بينما ذهب جمهور الفقهاء، سلفا وخلفا، إلى منعه، وذلك على قولين:

                القول الأول: اتجه أصحابه إلى عدم ضمان المصرف الإسلامي لأموال الاستثمار, بما في ذلك حسابات الاستثمار المقيدة, وحسابات الاستثمار المطلقة، وإليه ذهب جمهور الفقهاء، من الحنفية [29] ، والمالكية [30] ، والشافعية [31] [ ص: 89 ] ، والـحنـابلـة [32] ، والظـاهـرية [33] ، وكثير من الباحثين المعاصرين في العمل المصـرف الإسلامي، منهم: محمد عبد الله العربي [34] ، وحسن عبد الله الأمين [35] .

                القول الثاني: ذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى ضمان المصرف الإسلامي لأموال المودعين لديه للاستثمار في كل الأحوال والظروف، مستندين في ذلك على بعض الحجج والمبررات المرتبطة بواقع العمل المصرفي. وممن اتجه إليه من المعاصرين محمد باقر الصدر [36] ، وسامي حمود [37] ، وغيرهم، لكنهم اختلفوا في مستندهم الفقهي لهذا الضمان. [ ص: 90 ]

                أولا: أدلة القول الأول:

                استدل المذهب القائل بعدم ضمان المصرف الإسلامي لأموال المضاربة, بأدلة عامة من الكتاب والسنة، التي تـمـنـع أكل أمـوال الناس بالبـاطـل، كما احتجوا بالإجماع والمعقول، وهي كما يأتي:

                1- الكتاب، قوله تعالى:

                ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) (النساء:29).

                وجه الدلالة: أن الله تعالى نهى عباده المؤمنين عن أخذ أموال (الغير) بغير حق، ومن ذلك ضمان المضارب - البنك الإسلامي- لأموال المودعين للمضاربة وقت خسارة المشروع أو هلاكه من غير تعديه أو تقصيره أو مخالفته للشروط والعقود.

                وقـد اعـتبر الشـوكاني يد المـضارب من الأيدي الأمينة كالشريك والوكيل ونـحوهـما، فقال: "ولا يضمن إلا إذا حصلت منه جناية أو تفريط، فإن التضمين حكم شرعي يستـلزم أخـذ مـال مسـلم معصوم بعصمة الإسـلام، فلا يـجـوز إلا بـحجـة شرعية، وإلا كان ذلك من أكل أموال الناس بالباطل" [38] . [ ص: 91 ]

                2- السنة: روى أبو بكرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ... إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، بينكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا... ) [39] .

                وجه الدلالة: قد بنى ابن حزم على هذا الحديث عدم ضمان العامل فيما يتلف من يده، فقال: "ولا ضمان على العامل فيما تلف من المال - ولو تلف كله - ولا فيما خسر فيه، ولا شيء له على رب المال، إلا أن يتعدى أو يضيع فيضمن، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام ) [40] .

                3- وروى أبو سعيد الخـدري رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا ضرر ولا ضرار، من ضار ضاره الله، ومن شاق شاق الله عليه ) [41] .

                مما يستفاد من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إيقاع الضرر بالنفس، وعن الإضرار بالآخرين، فمن الإضرار بالآخرين تضمين العامل في مال المضاربة بدون تعد أو تقصير أو مخالفة شروط العقود أو غير ذلك.

                4- الإجماع:

                وقد حكى الإجماع ابن رشد، فقال: "وأجمعوا على ... أنه لا ضمان على العامل فيما تلف من رأس المال إذا لم يتعد" [42] . [ ص: 92 ]

                5- الدليل العقلي:

                لما كانت الودائع الاستثمارية قد كيفت على عقد المضاربة، وعد المصرف بالنسبة لأصحاب الأموال مضارب؛ فلا يجوز أن يتحمل المضارب- المصرف الإسلامي- خسارة المشروع إلا عند التعدي أو التقصير، فإذا ضمنه فلا فرق حينئذ بين الوديعة الاستثمارية التي تجريها المصارف الإسلامية، وبين الوديعة التي تستقبلها البنوك التقليدية من العملاء؛ لأن البنوك الربوية ملزمة بأن تدفع فوائد ثابتة، ربحت في مشروعها أم خسرت [43] .

                ولـذا؛ فـلا يلزم المصـرف الإسـلامي أن يرد الأموال كاملة لأصحابها في كل الأحوال والظروف، فقد ترد الأموال كاملة مع الربح الناتج عن استثمـارها، وقد يرد المبلغ المـدفـوع بدون زيـادة. وهـذا تبعا لما تسفر عنه نتائج استثمارها من ربح أو خسارة، في حين أن البنك الربوي يتحمل رد رأس المال وفوائده [44] .

                وقد نص مجمع الفقه الإسلامي، كما ورد في القرار رقم ( 90 / 3 /د9) على أن: "الودائع التي تسلم للبنوك الملتزمة فعليا بأحكام الشريعة الإسلامية بعقد استثمار على حصة من الربح هي رأس مال مضاربة، وتنطبق عليها [ ص: 93 ] أحكام المضاربة (القراض) في الفقه الإسلامي التي منها عدم جواز ضمان المضارب (البنك) لرأس مال المضاربة" [45] .

                كما نص مجمع الفقه الإسلامي في قرار آخر: 122 ( 5 / 13 ) على أن: "المضـارب أمـين، ولا يضمـن ما يقـع من خـسـارة أو تلـف إلا بالتعدي أو التقصـير، بـما يشمل مخالفة الشروط الشرعية أو قيود الاستثمار المحددة التي تم الدخول على أساسها، ويستوي في هذا الحكم المضاربة الفردية والمشـتـركة، ولا يتـغـير بدعـوى قيـاسـها عـلى الإجـارة الـمشـتـركة، أو بالاشـتراط والالتزام" [46] .

                ثانيا: أدلة القول الثاني:

                استدل المذهب الثاني القائل بضمان البنك الإسلامي لأموال الاستثمار, بما يأتي:

                1- ذهب الأستاذ محمد باقر الصدر، إلى القول بضمان البنك الإسلامي لأموال الاستثمار على أساس التبرع، باعتباره طرفا ثالثا لا دخل له [ ص: 94 ] بالمضاربة أصلا؛ لأنه ليس العامل في المال، بل هو الوسيط بين أصحاب المال والعاملين فيه [47] .

                غير أن القول بأن البنك الإسلامي يعتبر طرفا ثالثا، لا دخل له بالمضاربة أصلا؛ لا يستقيم حسب الواقع العملي؛ لأن المصرف طرف أصيل في كلا العقدين. وطالما علاقة المصرف الإسلامي بأموال المودعين هي علاقة مضاربة، فلا ضمان للمصرف؛ لأنه عامل، والعامل أمين، وأنه ليس على العامل ضمان. فإذا ضمنه فلا فرق حينئذ بين الوديعة الاستثمارية، التي تجريها البنوك الإسلامية، والوديعة التي تجريها البنوك التقليدية [48] .

                هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن المضاربة من عقود الأمانة، والأمانة لا تضمن حتى لو تبرع بذلك من وضعت لديه [49] . جاء في المغني: "فأما الأمـانات، كالـوديعة، والعين المؤجـرة، والشـركة، والمـضاربة، والعين، التي يدفعها إلى القصار والخياط، فهذه إن ضمنها من غير تعد فيها، لم يصح ضمانها؛ لأنها غير مضمونة على من هي في يده" [50] .

                2- ولقد ذهب الدكتور سامي حمود، إلى القول بتضمين البنك الإسلامي للودائع الاستثمارية، وأيد وجهة نظره بناء على أساسين: [ ص: 95 ]

                الأساس الأول: تخريج ضمان البنك الإسلامي لأموال المودعين على ضمان الأجير المشترك







                [51] ، الذي يعرف بتضمين الصناع [52] ، فكما أن الأجير [ ص: 96 ] المشترك يضمن ما عنده من غرض لغيره، فكذلك المضارب بجامع أن كل واحد منهما يأخذ مال غيره بقصد الحصول على الربح [53] .

                ثم أورد الدكتور سامي حمود جملة من النصوص، التي تناولها بعض الفقهاء لتضمين الصناع، منها: ما قال أبو يوسف ومحمد، بشأن الأجير المشترك: "يضمن إلا إذا هلك بأمر لا يمكن التحرز عنه؛ لأن عمر وعليا، رضي الله عنهما، كانا يضمنان الأجير المشترك" [54] .

                ثم بين المقصود بالأمر، الذي لا يمكن التحرز عنه، الكاساني، بقوله، هو: "حرق غالب أو غرق غالب أو لصوص مكابرين" [55] .

                وقال ابن رشد: "وتحصيل مذهب مالك على هذا أن الصانع المشترك يضمن، سواء عمل بأجر أو بغير أجر، وبتضمين الصناع قال علي وعمر، وإن كان قد اختلف عن علي في ذلك" [56] . [ ص: 97 ]

                وقد وضح الشاطبي وجه المصلحة تحت معرض حديثه عن: قضاء الخلفاء الراشدين بتضمين الصناع، بقوله: "إن الخلفاء الراشدين قضوا بتضمين الصناع، قال علي رضي الله عنه : "لا يصلح الناس إلا ذاك"، ووجه المصلحة فيه أن الناس لهم حاجة إلى الصناع، وهم يغيبون عن الأمتعة في غالب الأحوال، والأغلب عليهم التفريط وترك الحفظ، فلو لم يثبت تضمينهم مع مسيس الحاجة إلى استعمالهم لأفضى ذلك إلى أحد أمرين: إما ترك الاستصناع بالكلية، وذلك شاق على الخلق ، وإما أن يعملوا ولا يضمنوا ذلك بدعواهم الهلاك والضياع، فتضيع الأموال، ويقل الاحتراز ، وتتطرق الخيانة ، فكانت المصلحة التضمين.. هذا معنى قوله: "لا يصلح الناس إلا ذاك" [57] .

                ووجـه الوفاق بين تضمين المضاربين وتضمين الصناع هو المصلحة، فـكما أنـهم قضـوا بـجـواز تضمين الصـنـاع لمـكان المصـلحـة، فينبغي أن يجوز تضمين المضاربين لوجود المصلحة الراجحة في تضمينهم، ولاسيما في هذا العـصر، الـذي لا يـتـورع كثـير من المـضـاربين عن التعـدي والتـفريط في أموال المضاربة [58] . [ ص: 98 ]

                وبالتالي؛ فإن الدكتور سامي حمود، يقول: "إذا كان انفراد الأجير المشترك بالعمل في الشيء، الذي استؤجر عليه، وترجيح جانب الهلاك نتيجة تفريطه المفترض هما من العوامل، التي دعت فقهاء المالكية لاعتباره ضامنا؛ فإن المضارب المشترك لا يقل شبها من هذه الناحية عن الأجير المشترك؛ إذ ينفرد المضـارب بالتـصرف في المال وإعطـائه مضـاربة كيف يشاء، ولمن يشاء. فلو لم يكن ضامنا لسعى جريا وراء الكسب السريع إلى الإقدام على إعطاء المال للمضاربين دون تحفظ أو مراجعة، مما يؤدي إلى إضاعة المال، وفقدان الثقة العامة، وما قد يترتب على ذلك من إحجام الناس عن دفع أموالهم للاستثمار، وهو الأمر الذي يعود على المجتمع كله - نتيجة ذلك الإحجام - بالضرر والخسران" [59] .

                ويـمـكن الجـواب عن هذا الأساس, وهو ضمان المضارب المشتـرك قياسا على الأجير المشترك، الذي قال به بعض الفقهاء بأنه غير ممكن؛ للأسباب الآتية:

                أ- قياس المضارب المشترك على الأجير المشترك، قياس مع الفارق؛ لأن الأجير المشترك يعمل لمؤجر نظير أجر معلوم بخلاف المضارب، الذي يعمل لرب المال نظير اشتراكه في الربح إن تحصل ربح وإلا فلا شيء له [60] . [ ص: 99 ]

                ب- أن المال في المضـاربة عـرضة للـضياع، بينما المال الذي عند الأجـير المشـترك ليس عرضة للضياع، بل إن ضياعه يعد دليلا على التفريط في المحافظة عليه [61] .

                ج- لا يصح قياس المضارب المشترك على الأجير المشترك؛ لأن الأصل وهو المقيس عليه هنا - ضمان الأجير المشترك- محل خلاف بين الفقهاء، ولمن شاء اختيار الرأي القائل بعدم ضمانه [62] .

                جاء في بدائع الصنائع: "فالأجير لا يخلو إما إن كان مشتركا أو خاصا وهـو المسـمى أجير الوحد، فإن كان مشتركا فهو أمانة في يده، في قول أبي حنيفة، وزفر، والحسن بن زياد، وهو أحد قولي الشافعي، وقال أبو يوسف ومحمد: هو مضمون عليه إلا حرق غالب أو غرق غالب أو لصوص مكابرين" [63] .

                د- ما روي عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، رضي الله عنهما، أنهما حكما بتضمين الصناع, لا يصلح للاحتجاج؛ وذلك لأنه يتعارض مع ما روي عن علي رضي الله عنه أنه كان لا يضمن القصار والصباغ ونحوهما [64] . [ ص: 100 ]

                ولو فرضنا صحة الروايتين؛ فإنه يمكن حمل رواية التضمين على تعدي الأجير المشترك، ورواية عدم التضمين إذا لم يتعد [65] .

                والأسـاس الـثـانـي: هو تخريج ضمان المصرف الإسلامي لأموال المضاربة, بما جاء عن ابن رشد: "ولم يختلف هؤلاء المشاهير من فقهاء الأمصار أنه إن دفع العامل رأس مال القراض إلى مقارض آخر أنه ضامن إن كان خسرانا" [66] . فيرى صاحب هذه الوجهة أن المصرف يعد ضامنا؛ لأنه يقوم بدفع أموال المودعين لأشخاص آخرين يعملون فيها [67] .

                ورد الدكتور شبير على هذا الرأي بقوله: "وأما التخريج على قول ابن رشد, بخصوص تضمين المضارب، الذي يضارب شخصا آخر بمال المضاربة, فهو غير دقيق ومقتطع عما قبله، حيث قيده ابن رشد, بحالة عدم الإذن من رب المال كما هو صريح النص" [68] . فقد جاء في بداية حديثه: "واختلف مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، والليث في العامل يخلط ماله بمال القراض من غير إذن رب المال ......" [69] . ذلك أن العلماء لم يختلفوا في تضمين [ ص: 101 ] المضارب الذي دفـع مال المضـاربة إلى مضارب آخر من غير إذن رب المال. أما المضارب الذي يقوم بدفع مال المضاربة إلى رجال الأعمال بناء على إذن رب المال، فلم يختلفوا في عدم ضمانه [70] .

                القول المختار: هو القول الأول، وهو عدم جواز ضمان المصرف لأموال الاستثمار، وذلك لما يأتي:

                1- إجماع الفقهاء على أن يد المضارب في أموال المضاربة يد أمانة، وليست يد ضمان، ومن ثم القول بالضمان مخالف للإجماع.

                2- ليس من العدالة الجمع بين الحسنيين؛ ضمان المال والحصول على العائد، للممول، بينما الطرف الآخر وهو المضارب يتحمل السيئتين؛ ضمان المال، وفقدان العائد كليا أو جزئيا. [ ص: 102 ]

                التالي السابق


                الخدمات العلمية