الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والمتفلسفة لا يقتصر في إلزامهم على تجدد الإضافات، بل يلزمون بكونه محدثا للحوادث المتجددة شيئا فشيئا، والإحداث هو من مقولة أن يفعل، وأن يفعل: أحد المقولات العشر، وهي أمور وجودية.

فيقال: كونه فاعلا لهذه الحوادث المعينة بعد أن لم يكن فاعلا لها، إما أن يكون أمرا حادثا وإما أن لا يكون حدث كونه فاعلا، فإن لم يحدث كونه فاعلا فحاله قبل أن يحدثها وبعد أن يحدثها واحد، وقد كان قبل أن يحدثها غير فاعل لها، فيلزم أن لا يحدث شيء، أو يحدث بلا [ ص: 242 ] محدث، وأنتم أنكرتم على المتكلمة الجهمية والمعتزلة أن قالوا: الذات تفعل بعد أن لم تكن فاعلة، بلا أمر تجدد، فكيف تقولون: هي دائما تفعل الحوادث شيئا بعد شيء، من غير أن يحدث لها أمر؟

وأيضا فالفاعلية التامة لكل واحد من الحوادث إن كانت موجودة في الأزل قبل حدوثه لزم تأخر الفعل عن الفاعلية التامة، وهذا باطل، وذلك يبطل قولهم.

وإن قالوا: بل الفاعلية التامة لكل حادث تحدث بعد أن لم تكن حادثة، فقد صارت الذات فاعلة لذلك الحادث بعد أن لم تكن فاعلة، وكونها فاعلة هي من مقولة أن يفعل، هي إحدى المقولات العشر التي هي الأجناس العالية، المسماة عندهم بقاطيغورياس، وهي كلها وجودية، فيلزم اتصاف الرب بقيام الأمور الوجودية به شيئا بعد شيء، كما اختاره كثير من سلفهم وخلفهم.

وهكذا يمكن تقرير كل ما ذكر الرازي من إلزام الطوائف شيئا بعد شيء لمن تصور ذلك تصورا تاما، وكل من قال: "لم يحدث شيء موجود" فإنه يلزمه التناقض البين الذي لا ينازع فيه المنصف الذي يتصور ما يقول تصورا تاما. [ ص: 243 ]

وقد اعتذر من اعتذر من الفلاسفة عما ألزمهم إياه من الإضافات بأن قالوا: الإضافات لا توجد إلا كذلك، فلا يتصور فيه الكمال قبلها، ولأنها تابعة لغيرها، فلا يثبت فيها الكمال، بل في متبوعها.

قلت: ولقائل أن يقول: هذا بعينه يقوله المثبتون، فإن الكلام إنما هو في الحوادث المتعلقة بمشئته وقدرته.

ومن المعلوم امتناع ثبوت الحوادث جميعها في الأزل: فإذا قال القائل: "الإضافات لا توجد إلا حادثة" قيل له: والحوادث المعلقة بمشيئته وقدرته لا توجد إلا حادثة.

وأما قوله: "الإضافة تابعة لغيرها، فلا يثبت فيها الكمال" فعنه جوابان: أحدهما: أن الدليل لا يفرق بين التابع والمتبوع، فإن صح الفرق ظل الدليل، وإن لم يصح انتقض الدليل، فيبطل على التقديرين.

الثاني: أن يقال: وهكذا ما يتعلق بمشيئته وقدرته، هو تابع أيضا، فلا يثبت فيه الكمال.

يوضح ذلك: أنه سبحانه مستحق في أزله لصفات الكمال، لا وزأ أن يكون شيء من الكمال الأزلي إلا وهو متصف به في أزله، [ ص: 244 ] كالحياة والعلم والقدرة وغير ذلك، وإنما الشأن فيما لا يمكن وجوده في الأزل.

التالي السابق


الخدمات العلمية