الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما قوله: "لو كلف الله رسولا من الرسل أن يلقي حقائق هذه الأمور إلى الجمهور من العامة الغليظة طباعهم، المتعلقة بالمحسوسات الصرفة أذهانهم" إلى آخر كلامه.

فيقال: لا ريب أن فيما غاب عن المشاهدة أمورا من الغيب، بعضها يمكن التعريف به مطلقا، وبعضها لا يمكن التعريف به إلا بعد شروط واستعداد، وبعضها لا يمكن التعريف به في الدنيا إلا على وجه مجمل، وبعضها لا يمكن التعريف به في الدنيا بحال، وبعضها لا يمكن مخلوقا أن يعلمه.

ولهذا قال تعالى: فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين [سورة السجدة: 17].

وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فما لا يخطر بالقلوب إذا عرفت به لم تعرفه إلا إذا كان له نظير، وإلا لم يمكن التعريف على وجهه. [ ص: 74 ]

وفي الدعاء المشهور: اللهم إني أسألك بكل اسم [هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، فإذا كان من أسمائه ما استأثر بعلمه، لم يعلمه غيره، ذلك وما خص به بعض عباده لم يعلمه غيره.

وفي الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: لا أحصي ثناء عليك أنت، كما أثنيت على نفسك.

وفي حديث الشفاعة: ينفتح على محامد أحمده بها لا أحسنها الآن. [ ص: 75 ]

فإذا كان أعلم الخلق بالله لا يحصي ثناء عليه، فكيف غيره؟! وإذا كان يفتح عليه في الآخرة بمحامد لم يعرفها في الدنيا، فكيف حال غيره؟

ونذكر في هذا قصة موسى والخضر عليهما السلام ونقر العصفور من البحر.

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه - فيما ذكره البخاري - حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم. [ ص: 76 ]

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سأل رجل عن تفسير آية، فقال: ما يؤمنك أني لو أخبرتك بها لكفرت بها، وكفرك بها تكذيبك بها، فتبين أنه ليس كل أحد يليق بمعرفة جميع العلوم.

ولهذا قال تعالى: أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها إلى قوله: يضرب الله الأمثال [سورة الرعد: 17]، فإن هذا مثل ضربه الله فشبه فيه ما ينزله من السماء من العلم والإيمان بالمطر، وشبه القلوب بالأودية، والأودية منها صغار وكبار، فكل واد يسيل بقدره.

فهذا ونحوه حق، ولكن حقائق الأمور التي يدعيها هؤلاء الملاحدة، هي في الحقيقة نفي وتعطيل تنكرها القلوب العارفة الذكية، أعظم مما تنكرها قلوب العامة، وكلما قوي عقل الرجل وعلمه زاد معرفة بفسادها، ولهذا لا يستجيب لهم الرجل إلا بقدر نقص عقله ودينه.

التالي السابق


الخدمات العلمية