الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقول القائل: "المطلق لا بشرط" ينفي اشتراط الإطلاق، فإن ذلك هو المطلق بشرط الإطلاق، وذاك ليس بموجود في الخارج، بلا نزاع من هؤلاء المنطقيين أتباع أرسطو - فإن المنطق اليوناني يضاف إليه - ولهذا لا يذكرون فيه نزاعا، وإنما يثبته في الخارج أصحاب أفلاطون، وإذا لم يكن الإطلاق شرطا فيه، لم يمتنع اقتران القيد به، فيكون وجوده مقيدا، وإذا كان وجوده مقيدا امتنع أن يكون مطلقا، فإن الإطلاق ينافي التقييد.

وإن قلت: المقيد يدخل في المطلق بلا شرط.

قلت: وإذا دخل فيه هو إياه في الذات، مغايرا له في الصفات.

كما إذا قلت: الناطق حيوان، لم يكن هناك جوهران: أحدهما مطلق، والآخر مقيد.

وهذا أمر يشهد به الحس، ولا ينازع فيه من تصوره، فليس في الموجودات المعينة إلا صفاتها المعينة القائمة بها، وكل ذلك مشخص [ ص: 93 ] معين، وما ثم إلا عين قائمة بنفسها، سواء سميت جوهرا، أو جسما، أو غير ذلك، أو صفة لها: سواء سميت عرضا أو لم تسم بذلك.

والمقصود أن الشيئين إذا اتفقا واشتركا في شيء، كالإنسانية والحيوانية، واختلفا وامتاز كل منهما عن الآخر بشيء كتعينه وتخصصه، فكل ما اتفقا فيه واختلفا فيه يمكن أخذه مطلقا ومعينا، فإذا أخذ معينا لم يكن واحد منهما شارك الآخر ووافقه في ما تعين فيه، وإذا أخذ مطلقا أو كليا، كان كل منهما قد شارك الآخر ووافقه في الكلي المطلق الذي يصدق عليهما، ولكن الكليات في الأذهان، وليس في الأعيان إلا ما هو معين مختص.

لكن بين المعينات تشابه واختلاف وتضاد. فإذا قيل: هذا الإنسان يشارك هذا في الإنسانية ويمتاز عنه بالتعين.

قيل له: يشاركه في إنسانيته التي تخصه أو في مطلق الإنسانية؟ فالأول باطل ومخالف لقوله: ويمتاز عنه بالتعيين، وإن أراد الثاني. قيل له: وكذلك التعين، فإنه يشاركه في مطلق التعين، فلكل منهما تعين يخصه، ويشتركان في مطلق التعين، كما قلنا في الإنسانية.

فقول هؤلاء: كل أشياء] تختلف بأعيانها وتتفق في أمر مقوم لها، فإما أن يكون ما تتفق فيه لازما لما تختلف فيه أو ملزوما له أو عارضا له أو معروضا له. فالأول والثالث والرابع جائز، والثاني يمتنع. [ ص: 94 ]

يقال لهم: الأشياء المعينة كالإنسانين والموجودين - سواء قدرا واجبين أو ممكنين، أو قدر أحدهما - كذلك لم تتفق في أمر هو بعينه في هذا وفي هذا، سواء سمي مقوما أو لم يسم، فهذا الإنسان لم يوافق هذا في نفس إنسانيته، وإنما وافقه [في] إنسانية مطلقة، وتلك المطلقة يمتنع أن تقوم بالمعين، فالتي وافقه فيها يمتنع أن تكون بعينها موجودة في الخارج، فضلا عن أن تكون مقومة لشيء من الأشياء، والأشياء المعينة لا تقوم بها، ولا يقومها إلا ما هو مختص بها، لا يشركها [فيه] غيره.

فهذا الإنسان المعين لا يقومه ولا يقوم به، ولا يلزمه ولا يعرض له قط إلا ما هو مختص به، سواء كان جوهرا [أو] عرضا، كما أن يده ورجله ورأسه مختصة به، فما يقوم ببدنه ونفسه من الحياة والنطق والحس والحركة والجسمية وغير ذلك، كل ذلك مختص به، ليس بقائم بغيره.

فليتدبر العاقل اللبيب هذا المكان الذي حصل بسبب الضلال فيه من فساد العقول والأديان ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.

وباشتباه هذا اشتبه الأمر على هؤلاء المنطقيين، وعلى من قلدهم واتبعهم، فضلوا في العقليات المنطقيات والإلهيات ضلالا بعيدا، [ ص: 95 ] وجعلوا الصور الذهنية الخيالية حقائق موجودة في الخارج، حتى [آل بهم] الأمر إلى أن جعلوا لواجب الوجود الخالق للسماوات والأرض رب [العالمين] وجودا مطلقا في أذهانهم، وعرضا [ثابتا] في نفوسهم، [ليس له حقيقة] في الخارج، ولا وجود،، ولا ثبوت، ويقولون: وجوده [معقول لا محسوس]، وإنما هو معقول في عقولهم، كما يعقلون الكليات الثابتة في العقول، فالوجود المطلق: كالحيوان المطلق، والإنسان المطلق، والجسم المطلق، والشمس المطلقة، والقمر المطلق، والفلك المطلق، ونحو ذلك مما لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان.

وهذا هو نهاية التوحيد، الذي زعموا أن [الرسل جاءت به] ولا ريب أن أقل أتباع الرسل أصح وأكمل عقلا من أن يجعل هذا ثابتا في الوجود الخارج، فضلا عن أن يجعله رب العالمين، مالك يوم الدين، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا!

التالي السابق


الخدمات العلمية