الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              3099 باب: لا وفاء لنذر في معصية الله،

                                                                                                                              ولا فيما يملك العبد

                                                                                                                              وأورده النووي في: (كتاب النذر ) .

                                                                                                                              حديث الباب

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص99 - 101 ج11 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن عمران بن حصين، قال: كانت ثقيف حلفاء لبنى عقيل، فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني عقيل، وأصابوا معه العضباء. فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الوثاق. قال: يا محمد! فأتاه. فقال: "ما شأنك ؟" فقال: بم أخذتني ؟ وبم أخذت سابقة الحاج ؟ فقال (إعظاما لذلك ) "أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف". ثم انصرف عنه، فناداه، فقال: يا محمد! يا محمد! (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رقيقا ) فرجع إليه، فقال: "ما شأنك ؟" قال: إني مسلم. [ ص: 224 ] قال: "لو قلتها وأنت تملك أمرك، أفلحت كل الفلاح". ثم انصرف، فناداه: فقال: يا محمد! يا محمد! فأتاه فقال: "ما شأنك ؟" قال: إني جائع فأطعمني، وظمآن فأسقني. قال: "هذه حاجتك" ففدي بالرجلين.

                                                                                                                              قال: وأسرت امرأة من الأنصار، وأصيبت العضباء، فكانت المرأة في الوثاق، وكان القوم يريحون نعمهم بين يدي بيوتهم، فانفلتت ذات ليلة من الوثاق، فأتت الإبل، فجعلت إذا دنت من البعير رغا، فتتركه، حتى تنتهي إلى العضباء، فلم ترغ. قال: وناقة منوقة. فقعدت في عجزها، ثم زجرتها فانطلقت. ونذروا بها فطلبوها فأعجزتهم. قال: ونذرت لله؛ إن نجاها الله عليها لتنحرنها.

                                                                                                                              فلما قدمت المدينة رآها الناس، فقالوا العضباء، ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: إنها نذرت؛ إن نجاها الله عليها لتنحرنها. فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا ذلك له. فقال: "سبحان الله! بئسما جزتها. نذرت لله؛ إن نجاها الله عليها لتنحرنها. لا وفاء لنذر في معصية، ولا فيما لا يملك العبد".

                                                                                                                              وفي رواية ابن حجر: "لا نذر في معصية الله"
                                                                                                                              .]

                                                                                                                              [ ص: 225 ]

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              [ ص: 225 ] (الشرح)

                                                                                                                              (عن عمران بن حصين ) رضي الله عنهما؛ (قال: كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل، فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه ) وآله (وسلم. وأسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه ) وآله (وسلم رجلا من بني عقيل، وأصابوا معه العضباء. فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه ) وآله (وسلم وهو في الوثاق. قال: يا محمد! فأتاه، فقال: "ما شأنك ؟" قال: بم أخذتني ؟ وبم أخذت سابقة الحاج ؟ ) يعني: ناقته "العضباء". وهي، والقصوى، والجدعاء: ثلاث، أم واحدة ؟ فيه خلاف...

                                                                                                                              (قال "إعظاما لذلك": "أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف". ) أي: بجنايتهم. قال الشاعر:

                                                                                                                              قد يؤخذ الجار بذنب الجار

                                                                                                                              .

                                                                                                                              (ثم انصرف عنه، فناداه، فقال: يا محمد! يا محمد!" وكان [ ص: 226 ] رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - رحيما رقيقا" فرجع إليه فقال: "ما شأنك ؟" قال: إني مسلم. قال: "لو قلتها وأنت تملك أمرك، أفلحت كل الفلاح". ) معناه: لو قلت كلمة الإسلام قبل الأسر، حين كنت مالك أمرك أفلحت، لأنه لا يجوز أسرك لو أسلمت قبل الأسر، فكنت فزت بالإسلام وبالسلامة من الأسر، ومن اغتنام مالك.

                                                                                                                              وأما إذا أسلمت بعد الأسر، فيسقط الخيار في قتلك. ويبقى الخيار بين الاسترقاق، والمن، والفداء.

                                                                                                                              (ثم انصرف، فناداه فقال: يا محمد! يا محمد! فأتاه فقال: "ما شأنك ؟" قال: إني جائع، فأطعمني، وظمآن فأسقني. قال "هذه حاجتك" ففدي بالرجلين ) .

                                                                                                                              وفي هذا: جواز التأخير عن قبول الإسلام، وجواز المفاداة، وأن إسلام الأسير لا يسقط حق الغانمين منه، بخلاف ما لو أسلم قبل الأسر.

                                                                                                                              وليس في هذا الحديث: أنه حين أسلم وفادى به، رجع إلى دار الكفر. ولو ثبت رجوعه إلى دارهم، وهو قادر على إظهار دينه لقوة شوكة عشيرته أو نحو ذلك: لم يحرم ذلك. فلا إشكال في الحديث.

                                                                                                                              وقد استشكله المازري وقال: كيف يرد المسلم إلى دار الكفر ؟ وهذا الإشكال باطل مردود بما ذكرته.

                                                                                                                              (قال: وأسرت امرأة من الأنصار ) ، هي امرأة أبي ذر "رضي الله عنه".

                                                                                                                              [ ص: 227 ] (وأصيبت العضباء، فكانت المرأة في الوثاق، وكان القوم يريحون نعمهم بين يدي بيوتهم، فانفلتت ذات ليلة من الوثاق، فأتت الإبل فجعلت إذا دنت من البعير رغا فتتركه، حتى تنتهي إلى العضباء فلم ترغ. قال: وهي ناقة منوقة ) بضم الميم وفتح النون والواو المشددة. أي: مذللة.

                                                                                                                              (فقعدت في عجزها، ثم زجرتها فانطلقت. ونذروا بها ) بفتح النون وكسر الذال. أي: علموا.

                                                                                                                              (فطلبوها فأعجزتهم. قال: ونذرت لله "عز وجل": إن نجاها الله عليها، لتنحرنها. فلما قدمت المدينة رآها الناس، فقالوا: العضباء، ناقة رسول الله، صلى الله عليه ) وآله (وسلم. فقالت: إنها نذرت - إن نجاها الله عليها - لتنحرنها. فأتوا رسول الله صلى الله عليه ) وآله (وسلم، فذكروا ذلك له. فقال: "سبحان الله! بئسما جزتها. نذرت لله؛ إن نجاها الله عليها لتنحرنها. لا وفاء لنذر في معصية ) وفي رواية: "في معصية الله".

                                                                                                                              وفي هذا: دليل على أن من نذر معصية؛ كشرب الخمر، وقطع الرحم، وغير ذلك: فنذره باطل لا ينعقد، ولا تلزمه كفارة يمين ولا غيرها. قال النووي: وبهذا قال مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وداود، وجمهور العلماء.

                                                                                                                              [ ص: 228 ] وقال أحمد: تجب فيه كفارة اليمين، بالحديث المروي عن عمران بن الحصين، وعن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال: "لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين".

                                                                                                                              واحتج الجمهور: بحديث الباب هذا. وأما حديث: "كفارته كفارة يمين": فضعيف باتفاق المحدثين. انتهى. وقال مثله في كتابه "الروضة". قال الحافظ: قلت: قد صححه الطحاوي، وأبو علي بن السكن. فأين الاتفاق ؟

                                                                                                                              قال القرطبي: وفي قصة أبي إسرائيل: أعظم حجة للجمهور، في عدم وجوب الكفارة على من نذر معصية، أو ما لا طاعة فيه. قال مالك: لم أسمع: أن رسول الله "صلى الله عليه وآله وسلم" أمر بكفارة. واستدل بحديث الباب، على أنه يصح النذر في المباح، لأنه لما نفى النذر في المعصية: بقي ما عداه ثابتا.

                                                                                                                              ويدل على أن النذر، لا ينعقد في المباح: حديث أبي إسرائيل، عن ابن عباس، عند البخاري، بلفظ: "نذر أن يقوم في الشمس، ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم. وأن يصوم". وحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي "صلى الله عليه وآله وسلم" قال: لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله تعالى" رواه أحمد، وأبو داود.

                                                                                                                              [ ص: 229 ] ومن جملة ما استدل به، على أنه يلزم الوفاء بالنذر المباح: قصة التي نذرت الضرب بالدف.

                                                                                                                              وأجاب البيهقي، بأنه يمكن أن يقال: إن من قسم المباح: ما قد يصير بالقصد مندوبا، كالنوم في القائلة، للتقوي على قيام الليل، وأكلة السحر، للتقوي على صيام النهار. فيمكن أن يقال: إن إظهار الفرح بعود النبي "صلى الله عليه وآله وسلم" سالما: معنى مقصود، يحصل به الثواب. والله أعلم.

                                                                                                                              (ولا فيما لا يملك العبد ) .

                                                                                                                              فيه: دليل على أن من نذر بما لا يملك: لا ينفذ نذره.

                                                                                                                              قال النووي: هو محمول على ما إذا أضاف النذر إلى معين لا يملكه، بأن قال: إن شفى الله مريضي: فلله علي أن أعتق عبد فلان، أو أتصدق بثوبه، أو بداره، أو نحو ذلك.

                                                                                                                              فأما إذا التزم في الذمة شيئا لا يملكه، بأن قال: إن شفى الله مريضي: فعلي عتق رقبة. فيصح نذره. وإن شفي المريض: ثبت العتق في ذمته.




                                                                                                                              الخدمات العلمية