ومنها ما اشتهر واستفاض بالنقل المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينفذ آحاد الصحابة إلى النواحي والقبائل والبلاد بالدعاء إلى الإسلام ، وتبليغ الأخبار والأحكام ، وفصل الخصومات ، وقبض الزكوات ونحو ذلك ، مع علمنا بتكليف المبعوث إليه بالطاعة والانقياد لقبول قول المبعوث إليهم ، والعمل بمقتضى ما يقول مع كون المنفذ من الآحاد ، ولو لم يكن  خبر الواحد حجة   لما كان كذلك .  
 [ ص: 63 ] ولقائل أن يقول : وإن سلمنا تنفيذ الآحاد بطريق الرسالة والقضاء وأخذ الزكوات والفتوى وتعليم الأحكام ، فلا نسلم وقوع تنفيذ الآحاد بالأخبار التي هي مدارك الأحكام الشرعية ليجتهدوا فيها  [1] وذلك محل النزاع .  
سلمنا صحة التنفيذ بالأخبار الدالة على الأحكام الشرعية وتعريفهم إياها ، ولكن لا نسلم أن ذلك يدل على كون خبر الواحد في ذلك حجة ، بل جاز أن يكون ذلك لفائدة حصول العلم للمبعوث إليهم بما تواتر بضم خبر غير ذلك الواحد إليه  [2]    .  
ومع هذه الاحتمالات ، فلا يثبت كون خبر الواحد حجة فيما نحن فيه .  
وقد أورد على هذه الحجة سؤالان آخران لا وجه لهما :  
الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم كما أنه كان ينفذ الآحاد لتبليغ الأخبار ، كان ينفذهم لتعريف وحدانية الله تعالى وتعريف الرسالة .  
فلو كان خبر الواحد حجة في الإخبار بالأحكام الشرعية ، لكان حجة في تعريف التوحيد والرسالة وهو خلاف الإجماع  [3]    .  
الثاني : أن من الجائز أن يكون تنفيذ الآحاد بالإخبار عن أحكام شرعية كانت معلومة للمبعوث لهم قبل إرسال ذلك الواحد بها ، كما أنهم علموا وجوب العمل بخبر الواحد ، فهل إرسال ذلك الواحد إليهم على أصلكم .  
 [ ص: 64 ] والجواب عن الأول أن إنفاذ الآحاد لتعريف التوحيد والرسالة لم يكن واجب القبول ، لكونه خبر واحد ، بل إنما كان واجب القبول من جهة ما يخبرهم به من الأدلة العقلية ، ويعرفهم من الدلائل اليقينية التي تشهد بصحتها عقولهم  [4] ولا كذلك فيما يخبر به من الأخبار الدالة على الأحكام الشرعية .  
وعن الثاني أنهم لو كانوا عالمين بالأحكام الشرعية التي دل عليها خبر الواحد ، لما احتيج إلى إرساله لتعريفهم لما قد عرفوه ، لما فيه من تحصيل الحاصل ، كيف وإن تعريف المعلوم بالخبر المظنون محال ، وهذا بخلاف ما إذا علم كون خبر الواحد مما يجب العمل به في الجملة ، فإن تنفيذ الواحد لا يعرف وجوب العمل بقوله بل إنما يعرف المخبر به على ما هو عليه ، وذلك لم يكن معروفا قبل خبره ، فكان تنفيذه لتعريف ذلك مفيدا .  
والأقرب في هذه المسألة إنما هو التمسك بإجماع الصحابة ، ويدل على ذلك ما نقل عن الصحابة من الوقائع المختلفة الخارجة عن العد والحصر ، المتفقة على العمل بخبر الواحد ، ووجوب العمل به .  
فمن ذلك ما روي  عن   أبي بكر الصديق  رضي الله عنه ، أنه عمل بخبر  المغيرة  ومحمد بن مسلمة  في ميراث الجدة ،  أن النبي أطعمها السدس  ، فجعل لها السدس     .  
ومن ذلك  عمل   عمر بن الخطاب  رضي الله عنه بخبر   عبد الرحمن بن عوف  في أخذ الجزية من  المجوس   ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : "  سنوا بهم سنة أهل الكتاب     " وعمل أيضا بخبر  حمل ابن مالك  في الجنين ، وهو قوله :  كنت بين جاريتين لي ( يعني ضرتين ) فضربت إحداهما الأخرى بمسطح ، فألقت جنينا ميتا ، فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة  ،  فقال  عمر     : لو لم نسمع بهذا لقضينا فيه بغير هذا     .  
وروي عنه أنه قال : كدنا نقضي فيه برأينا .  
وأيضا فإنه كان لا يرى توريث المرأة من دية زوجها ، فأخبره  الضحاك بن سفيان  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورث امرأة  أشيم الضبابي  من ديته فرجع إليه     .  
 [ ص: 65 ] وأيضا فإنه كان يرى في الأصابع نصف الدية ، ويفاضل بينها فيجعل في الخنصر ستة ، وفي البنصر تسعة ، وفي الوسطى والسبابة عشرة ، وفي الإبهام خمسة عشرة ، ثم رجع إلى خبر  عمرو بن حزم  أن  في كل أصبع عشرة     .  
ومن ذلك عمل  عثمان  وعلي  رضي الله عنهما بخبر  فريعة بنت مالك  في اعتداد المتوفى عنها زوجها في منزل زوجها ، وهو أنها قالت :  جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة زوجي أستأذنه في موضع العدة ، فقال صلى الله عليه وسلم امكثي حتى تنقضي عدتك     .  
ومن ذلك ما اشتهر من عمل علي عليه السلام بخبر الواحد ، وقوله : كنت إذا سمعت من رسول الله حديثا نفعني الله بما شاء منه ، وإذا حدثني غيره حلفته فإذا حلف صدقته  [5]    .  
ومن ذلك  عمل   ابن عباس  بخبر   أبي سعيد الخدري  في الربا في النقد ، بعد أن كان لا يحكم بالربا في غير النسيئة     .  
ومن ذلك  عمل   زيد بن ثابت  بخبر امرأة من  الأنصار   أن الحائض تنفر بلا وداع     .  
ومن ذلك ما روي  عن   أنس بن مالك  أنه قال :  كنت أسقي  أبا طلحة  وأبا عبيدة   وأبي بن كعب  شرابا من فضيخ التمر إذ أتانا آت فقال إن الخمر قد حرمت  ، فقال  أبو طلحة     : قم يا  أنس  إلى هذه الجرار فاكسرها ، قال : فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى تكسرت     .  
ومن ذلك عمل  أهل  قباء    في التحول من القبلة بخبر الواحد أن القبلة قد نسخت ، فالتفتوا إلى  الكعبة   بخبره .  
ومن ذلك ما روي  عن   ابن عباس  أنه بلغه عن رجل أنه قال : إن  موسى   صاحب  الخضر  ليس هو  موسى   بني إسرائيل   ، فقال   ابن عباس     : كذب عدو الله .  
أخبرني   أبي بن كعب  قال :  خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم  ثم ذكر  موسى   والخضر  بشيء يدل على أن  موسى   بني إسرائيل   صاحب  الخضر  ، فعمل بخبر  أبي  حتى كذب الرجل وسماه عدو الله     .  
 [ ص: 66 ] ومن ذلك ما روي أنه لما  باع  معاوية  شيئا من أواني ذهب وورق بأكثر من وزنه أنه قال له   أبو الدرداء     : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن ذلك  ، فقال له  معاوية     : لا أرى بذلك بأسا ، فقال   أبو الدرداء     : من يعذرني من  معاوية  ، أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه ، لا أساكنك بأرض أبدا     .  
ومن ذلك عمل جميع الصحابة بما رواه   أبو بكر الصديق  من قوله : "  الأئمة من قريش     " ، ومن قوله : "  الأنبياء يدفنون حيث يموتون     " ، ومن قوله : "  نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة     " .  
وعملهم بأجمعهم في الرجوع عن سقوط فرض الغسل بالتقاء الختانين بقول  عائشة     :  فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم واغتسلنا     .  
وعمل جميعهم بخبر   رافع بن خديج  في المخابرة ، وذلك ما روي  عن   ابن عمر  أنه قال :  كنا نخابر أربعين سنة لا نرى بذلك بأسا حتى روى لنا   رافع بن خديج  أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك  فانتهينا  [6] إلى غير ذلك من الوقائع التي لا تحصى عددا ، وكان ذلك شائعا ذائعا فيما بينهم من غير نكير .  
وعلى هذا جرت سنة التابعين ،  كعلي بن الحسين  ،   ومحمد بن علي  ،   وجبير بن مطعم  ،   ونافع بن جبير  ،   وخارجة بن زيد  ،   وأبي سلمة بن عبد الرحمن  ،   وسليمان بن يسار  ،   وعطاء بن يسار  ،   وطاوس  وعطاء بن مجاهد  [7]  وسعيد بن المسيب  وفقهاء الحرمين والمصرين ( يعني  الكوفة   والبصرة      ) إلى حين ظهور المخالفين .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					