المسألة الثانية : ( شهد ) أي حضر والشهود الحضور ، ثم ههنا قولان :
أحدهما : أن مفعول شهد محذوف لأن المعنى : فمن شهد منكم البلد أو بيته بمعنى لم يكن مسافرا ، وقوله : ( الشهر ) انتصابه على الظرف ، وكذلك الهاء في قوله : ( فليصمه ) .
والقول الثاني : مفعول ( شهد ) هو ( الشهر ) ، والتقدير : من شاهد الشهر بعقله ومعرفته فليصمه وهو كما يقال : شهدت عصر فلان ، وأدركت زمان فلان ، واعلم أن كلا القولين لا يتم إلا بمخالفة الظاهر ، أما القول [ ص: 76 ] الأول فإنما يتم بإضمار أمر زائد ، وأما القول الثاني فيوجب دخول التخصيص في الآية ، وذلك لأن شهود الشهر حاصل في حق الصبي والمجنون والمريض والمسافر مع أنه لم يجب على واحد منهم الصوم إلا أنا بينا في أصول الفقه أنه ، وأيضا فلأنا على القول الأول لما التزمنا الإضمار لا بد أيضا من التزام التخصيص ؛ لأن الصبي والمجنون والمريض كل واحد منهم شهد الشهر مع أنه لا يجب عليهم الصوم ، بل المسافر لا يدخل فلا يحتاج إلى تخصيص هذه الصورة فيه ، فالقول الأول لا يتمشى إلا مع التزام الإضمار والتخصيص ، والقول الثاني يتمشى بمجرد التزام التخصيص فكان القول الثاني أولى ، هذا ما عندي فيه مع أن أكثر المحققين متى وقع التعارض بين التخصيص والإضمار فالتخصيص أولى كالواحدي وصاحب " الكشاف " ذهبوا إلى الأول .
المسألة الثالثة : الألف واللام في قوله : ( فمن شهد منكم الشهر ) للمعهود السابق وهو شهر رمضان ، ونظيره قوله تعالى : ( لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء ) [ النور : 13 ] أي فإذ لم يأتوا بالشهداء الأربعة .
المسألة الرابعة : اعلم أن في الآية إشكالا وهو أن قوله تعالى : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) جملة مركبة من شرط وجزاء ، فالشرط هو شهود الشهر والجزاء هو الأمر بالصوم ، وما لم يوجد الشرط بتمامه لا يترتب عليه الجزاء ، والشهر اسم للزمان المخصوص من أوله إلى آخره ، فشهود الشهر إنما يحصل عند الجزاء الأخير من الشهر ، وظاهر هذه الآية يقتضي أن عند شهود الجزء الأخير من الشهر يجب عليه صوم كل الشهر وهذا محال ، لأنه يفضي إلى إيقاع الفعل في الزمان المنقضي وهو ممتنع ، فلهذا الدليل علمنا أنه لا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها ، وأنه لا بد من صرفها إلى التأويل ، وطريقه أن يحمل لفظ الشهر على جزء من أجزاء الشهر في جانب الشرط ، فيصير تقريره : ، فعلى هذا : من شهد هلال رمضان فقد شهد جزءا من أجزاء الشهر ، وقد تحقق الشرط فيترتب عليه الجزاء ، وهو الأمر بصوم كل الشهر ، وعلى هذا التأويل يستقيم معنى الآية وليس فيه إلا حمل لفظ الكل على الجزء وهو مجاز مشهور . من شهد جزءا من أجزاء الشهر فليصم كل الشهر
واعلم أن المنقول عن علي أن المراد من هذه الآية ، فمن شهد منكم أول الشهر فليصم جميعه ، وقد عرفت بما ذكرنا من الدليل أنه لا يصح البتة إلا هذا القول ، ثم يتفرع على هذا الأصل فرعان :
أحدهما : أنه إذا شهد أول الشهر هل يلزمه صوم كل الشهر .
والثاني : أنه إذا شهد آخر الشهر هل يلزمه صوم كل الشهر .
أما الأول : فهو أنه نقل عن علي - رضي الله عنه - أن ، أن الواجب أن يصوم الكل ، لأنا بينا أن الآية تدل على أن من شهد أول الشهر وجب عليه صوم كل الشهر ، وأما سائر المجتهدين فيقولون : إن قوله تعالى : ( من دخل عليه الشهر وهو مقيم ثم سافر فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) ، وإن كان معناه : أن من شهد أول الشهر فليصمه كله إلا أنه عام يدخل فيه الحاضر والمسافر ، وقوله بعد ذلك : ( فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) خاص والخاص مقدم على العام ، فثبت أنه وإن سافر بعد شهود الشهر فإنه يحل له الإفطار .
وأما الثاني : وهو أن زعم أن أبا حنيفة يلزمه قضاء ما مضى ، قال : لأنا [ ص: 77 ] قد دللنا على أن المفهوم من هذه الآية أن من أدرك جزءا من رمضان لزمه صوم كل رمضان ، والمجنون إذا أفاق في أثناء الشهر فقد شهد جزءا من رمضان فوجب أن يلزمه صوم كل رمضان ، فإذا لم يمكن صيام ما تقدم فالقضاء واجب . المجنون إذا أفاق في أثناء الشهر