إن مما لا جدال فيه أن الاستشراق له أثر كبير في العالم الغربي وفي العالم الإسلامي على السواء، وإن اختلفت ردود الأفعال على كلا الجانبين؛ ففي العالم الغربي لم يعد في وسع أحد أن يكتب عن الشرق، أو يفكر فيه، أو يمارس فعلا مرتبطا به أن يتخلص من القيود التي فرضها الاستشراق على حرية الفكر أو الفعل في هـذا المجال من حيث إن الاستشراق (يشكل شبكة المصالح الكلية، التي يستحضر تأثيرها بصورة لا مفر منها في كل مناسبة يكون فيها ذلك الكيان العجيب (الشرق) موضوعا للنقاش) [1] .
وفي عالمنا العربي الإسلامي المعاصر لا يكاد يجد المرء مجلة أو صحيفة أو كتابا إلا وفيها ذكر أو إشارة إلى شيء عن الاستشراق أو يمت إليه بصلة قريبة أو بعيدة. [ ص: 13 ]
وهذا أمر ليس بمستغرب؛ ذلك أن الاستشراق في حقيقة الأمر كان ولا يزال جزءا لا يتجزأ من قضية الصراع الحضاري بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، بل يمكن أن نذهب إلى أبعد من ذلك ونقول: إن الاستشراق يمثل الخلفية الفكرية لهذا الصراع. ولهذا فلا يجوز التقليل من شأنه بالنظر إليه على أنه قضية منفصلة عن باقي دوائر هـذا الصراع الحضاري؛ فقد كان للاستشراق من غير شك أكبر الأثر في صياغة التصورات الأوروبية عن الإسلام، وفي تشكيل مواقف الغرب إزاء الإسلام على مدى قرون عديدة.
ولا يزال الأوروبيون حتى اليوم يستقون معلوماتهم عن الإسلام من كتابات المختصين في هـذا المجال من الأوروبيين، وهؤلاء هـم بطبيعة الحال من طبقة المستشرقين، هـذا فضلا عما يكتبه بعض الأدباء أو الفلاسفة الأوربيين، ولكن كتابة هـذا الفريق الأخير لا تخرج في الغالب عن كونها مبنية على كتابات المستشرقين [2] .
والاستشراق قضية تتناقض حولها الآراء في عالمنا الإسلامي؛ فهناك من يؤيده ويتحمس له إلى أقصى حد، وهناك من يرفضه جملة وتفصيلا، ويلعن كل من يشتغل به بوصفه عدوا لدودا للإسلام والمسلمين.
والواقع الذي لا يمكن إنكاره هـو أن الاستشراق له تأثيراته القوية في الفكر الإسلامي الحديث إيجابا أو سلبا، أردنا أم لم نرد. ولهذا فإننا لا نستطيع أن نتجاهله أو نكتفي بمجرد رفضه، وكأننا بذلك قد قمنا بحل المشكلة، إننا لو فعلنا ذلك لكنا كالنعامة التي تدفن رأسها في الرمال. ولهذا فإنه ليس هـناك بديل عن مواجهة المشكلة وطرحها على بساط البحث ودراستها واستخلاص النتائج واقتراح الحلول. [ ص: 14 ]
وهكذا نجد أن موضوع الاستشراق يفرض نفسه علينا بإلحاح، ويتطلب منا وقفه تأملية جادة لبحثه ودراسة أبعاده وتأثيراته بالنسبة للإسلام والمسلمين.
وهناك من غير شك بعض الجهود العلمية القيمة في هـذا الصدد من جانب بعض المسلمين، وهي جهود لا يجوز التقليل من شأنها أو تجاهلها [3] .
ولسنا نقصد بهذا الكتاب أن يكون عوضا عن هـذه الدراسات، ولكن حسبنا هـنا أن نركز على بعض النقاط الهامة التي نرجو من ورائها أن تكون حافزا لنا على مواصلة التفكير والتأمل في أبعاد هـذه القضية المتعددة الجوانب المتشعبة الأطراف؛ من أجل الوصول إلى اتخاذ المواقف الصحيحة التي من شأنها أن تسير بنا إلى بلوغ الأهداف المرجوة.
وفي محاولتنا هـنا لعرض هـذا الموضوع سنتوخى أن نكون موضوعيين، بعيدين عن اتخاذ أسلوب المواقف الجدلية الانفعالية؛ لأن مثل هـذه المواقف قليلة الجدوى، وإن كان لها بعض التأثير فإنه تأثير وقتي سرعان ما يزول؛ لعدم ارتكازه على أسس متينة. ومن أجل ذلك نريد أن نخاطب القارئ ونضع أمامه القضية بإيجابياتها وسلبياتها، ونشركه في البحث عن الحلول الجادة.
وفي هـذا الصدد نود أن نؤكد أن التزام الموضوعية هـو دائما في صالح الإسلام. والأمر الذي لا ينبغي أن يغيب هـنا عن الأذهان هـو أن الإسلام بوصفه دين الله الحق لا يخشى عليه من أية تيارات فكرية مناوئة أيا كان مصدرها، وأيا كان شأنها وانتشارها وقوتها، طالما وجد هـذا الدين من أتباعه من يستطيع فهمه فهما سليما، وأدرك أهدافه ومراميه إدراكا واعيا. فإذا توفر مثل هـذا الفهم السليم والإدراك الواعي فسيتضح أنه لا توجد هـناك تيارات فكرية يمكن أن تتحدى الإسلام، بل العكس هـو الصحيح وهو أن [ ص: 15 ] الإسلام نفسه هـو الذي يتحدى. أما إذا افتقد الإسلام لدى أتباعه الوعي السليم والفهم الصحيح لأصوله وغاياته فإن مواقف هـؤلاء الأتباع -مهما حسنت النيات- لن تخرج عن مواقف الصديق الجاهل الذي هـو أضر بالإسلام من العدو العاقل.
والكتاب الذي نقدمه اليوم إلى القارئ الكريم يحتوي على ثلاثة فصول:
يشتمل الفصل الأول منها على: مدخل تاريخي حول نشأة الاستشراق وتطوره.
أما الفصل الثاني وهو الفصل الرئيس في هـذا الكتاب فإنه يتناول بالبحث: مواقف المستشرقين بإيجابياتها وسلبياتها.
وفي الفصل الثالث والأخير نتحدث عن موقفنا نحن المسلمين: من الحركة الاستشراقية.
والله من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.