الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
نماذج من آراء المستشرقين حول الإسلام

القـرآن

[1] مصدر القرآن

القرآن الكريم هـو كتاب الإسلام الأول، الذي تقوم على أساسه عقائد الدين الإسلامي وشريعته، وتنبثق منه أخلاق الإسلام وآدابه. فإذا ثبت أنه وحي الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا ومن خلفه فإن الإيمان به يصبح أمرا لا مفر منه.

ومن أجل ذلك اتجهت جهود المناهضين للإسلام قديما وحديثا إلى محاولة زعزعة الاعتقاد في صحة القرآن وفي مصدره، وقد بذل الوثنيون جهدهم في مقاومة فكرة أن القرآن وحي من عند الله؛ فزعموا أنه ( إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون ) (الفرقان:4) ، وأنـه ( أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ) (الفرقان :5) وأن محمدا ( يعلمه بشر ) (النحل: 103) ، أو أن القرآن قول ساحر أو كاهن. وكانوا يهدفون من وراء ذلك كله إلى إبطال القول بأنه وحي السماء إلى محمد صلى الله عليه وسلم لهداية البشر.

وقد حذا المستشرقون المتحاملون على الإسلام في موقفهم من القرآن حذو مشركي مكة، وبذلوا محاولات مستميتة لبيان أن القرآن ليس وحيا من عند الله، وإنما هـو من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم . ورددوا أحيانا الاعتراضات التي قال بها الوثنيون قديما رغم دحض القرآن لها. [ ص: 82 ]

يقول ( جورج سيل G. Sale) في مقدمة ترجمته الإنجليزية لمعاني القرآن، التي صدرت عام 1736م ما يأتي: (أما أن محمدا كان في الحقيقة مؤلف القرآن والمخترع الرئيسي له فأمر لا يقبل الجدل، وإن كان من المرجح -مع ذلك- أن المعاونة التي حصل عليها من غيره في خطته هـذه لم تكن معاونة يسيرة. وهذا واضح في أن مواطنيه لم يتركوا الاعتراض عليه بذلك) [1] .

وقد كان (جورج سيل) ممن لهم اهتمام بالغ بالإسلام لدرجة أنه وصف بأنه نصف مسلم. وقد صادفت المقدمة التمهيدية للترجمة التي جزم فيها بتأليف محمد للقرآن نجاحا عظيما في أوروبا، الأمر أدي بمستشرق آخر هـو ( كاسمير سكي ) أن يجعل من مقدمة (سيل) مقدمة لترجمته الفرنسية لمعاني القرآن التي صدرت عام 1841م. وقد استطاعت هـذه المقدمة أن تثبت وجودها زمنا طويلا جدا كمصدر علمي موثوق به لدى المستشرقين من حيث اشتمالها على عرض شامل للدين الإسلامي [2] وقد أصبحت قضية تأليف محمد للقرآن لدى المستشرقين (أمرا لا يقبل الجدل) ، كما يقول (سيل) ، غير أن من المستشرقين من يذكر ذلك صراحة كما فعل (سيل) من قبل، وكما فعل ( رينان ) من بعده، إذ اعتبر الرسالة المحمدية امتدادا طبيعيا للحركة الدينية التي كانت سائدة في عصر محمد صلى الله عليه وسلم دون أن تشتمل هـذه الرسالة على أي جديد [3] . ومنهم من يذكر ذلك [ ص: 83 ] بأسلوب أقل حدة وبطريق غير مباشر، وبعض المستشرقين المعاصرين ينحو هـذا المنحى، الأمر الذي يجعل رأيهم يبدو وكأنه استنتاج علمي.

وإذا كان محمد هـو مؤلف القرآن فإن الفرية الاستشراقية تحاول أن تكون محبوكة بقدر الإمكان؛ وذلك ببيان المصادر التي اعتمد عليها محمد في كتابته للقرآن، ويذهب الخيال الاستشراقي في هـذا الصدد كل مذهب لإثبات مزاعمه.

ويرى ( ريتشارد بل Richard Bell) ( [4] ) مؤلف كتاب: مقدمة القرآن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اعتمد في كتابته للقرآن على الكتاب المقدس، وخاصة على العهد القديم في قسم القصص؛ فبعض قصص العقاب كقصص عاد وثمود مستمدة من مصادر عربية، ولكن الجانب الأكبر من المادة التي استعملها محمد ليفسر تعاليمه ويدعمها قد استمده من مصادر يهودية ونصرانية، وقد كانت فرصته في المدينة للتعرف على ما في العهد القديم أفضل من وضعه السابق في مكة؛ حيث كان على اتصال بالجاليات اليهودية في المدينة، وعن طريقها حصل على قسط غير قليل من المعرفة بكتب موسى على الأقل [5] .

ويذهب المستشرق ( لوت ) إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم مدين بفكرة فواتح السور من مثل: حم، وطسم، والم... إلخ، لتأثير أجنبي، ويرجح أنه تأثير يهودي، ظنا منه أن السور التي بدئت بهذه الفواتح مدنية خضع فيها النبي صلى الله عليه وسلم لتأثير اليهود. ولو دقق في الأمر لعلم أن سبعا وعشرين سورة من تلك السور التسع والعشرين مكية، وأن اثنتين فقط من هـذه السور مدنية؛ وهما سورتا البقرة وآل عمران [6] . [ ص: 84 ]

وعن التأثير النصراني يقول ( بارت ) :

(لقد كانت معلومات الناس في مكة -في عصر النبي- عن النصرانية محدودة وناقصة، ولم يكن النصارى العرب سائرين في معتقداتهم في الاتجاه الصحيح، ولهذا كان هـناك مجال لظهور الآراء البدعية المنحرفة، ولولا ذلك لما كان محمد على علم بأمثال تلك الآراء التي تنكر صلب المسيح وتذهب إلى أن نظرية التثليث النصرانية لا تعني: الأب، والابن، وروح القدس. وإنما تعني: الله، وعيسى، ومريم. وعلى أية حال فإن المعارف التي استطاع محمد أن يجمعها عن حياة المسيح وأثره كانت قليلة ومحدودة، وعلى عكس من ذلك كان محمد يعرف الشيء الكثير عن ميلاد عيسى وعن أمه مريم) [7] .

وما يقصد أن يقوله (بارت) هـنا واضح؛ وهو أن المعلومات التي وردت في القرآن عن النصرانية وعن المسيح وأمه كانت المعلومات الشائعة آنذاك إما خاطئة أو محدودة. فمحمد إذن هـو مؤلف القرآن.

ويزعم المستشرقون أيضا أن محمدا تعرف على النصرانية من بحيرى الراهب في رحلته التجارية إلى الشام، وقد تمثل محمد في نفسه ما سمعه من بحيرى الراهب [8] .

وما عرفه من أتباع اليهودية، وخرج على الناس يعلن دينه الجديد الذي لفقه من الدينين الكبيرين. [ ص: 85 ]

وهذه كلها مزاعم واهية، لا حظ لها من العلم ولا سند لها من التاريخ، وإنما هـي تخمينات وافتراضات يضعها أصحابها كما لو كانت (حقائق ثابتة لا تقبل الجدل) .

وقد تناول الدكتور محمد عبد الله دراز -رحمه الله- في دراسته القيمة: (مدخل إلى القرآن) ، جميع الافتراضات المتعلقة باحتمال وجود مصدر بشري للقرآن، وناقشها مناقشة علمية، وأظهر زيفها وبطلانها، وانتهى إلى القول بأن:

جميع سبل البحث التي وقعت تحت أيدينا وناقشناها ثبت ضعفها وعدم قدرتها على تقديم أي احتمال لطريق طبيعي أتاح له -أي: للنبي صلى الله عليه وسلم - فرصة الاتصال بالحقائق المقدسة. ورغم الجهد الذهني الذي نبذله لتضخيم معلوماته السمعية ومعارف بيئته، فإنه يتعذر علينا اعتبارها تفسيرا كافيا لهذا البناء الشامخ من العلوم الواسعة والمفصلة، التي يقدمها لنا القرآن الكريم في مجال الدين والتاريخ والأخلاق والقانون والكون... إلخ [9] .

فلم يبق إلا أنه وحي الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ، أرسله رحمة للناس أجمعين، ويحق لنا أن نسأل الذين يجادلون في مصدر القرآن ويرون أنه مأخوذ من النصرانية واليهودية أو من البيئة العربية: ما المانع أن يكون القرآن وحيا أصيلا مأخوذا من النبع نفسه الذي اغترفت منه الديانات السماوية الصحية؟

ما المانع أن يكون الإسلام هـو الحلقة الأخيرة من حلقات الوحي الإلهي، الذي أقام الاتصال بين السماء والأرض على مدى تاريخ البشرية؟ لماذا تحرمون على الإسلام ما تبيحونه لليهودية والنصرانية؟ [ ص: 86 ]

هل هـو التعصب الأعمى، أم هـي الكراهية لهذا الدين الذي جاء مصححا لما طرأ على الديانات السابقة من أوهام وأباطيل، وكاشفا لوجه الحق فيها؟ هـل مبدأ جواز اتصال السماء بالأرض عن طريق الوحي مبدأ مسلم به أم لا؟

إنه إذا كان هـذا المبدأ مسلما به فلا معنى لأن تحتكره اليهودية والنصرانية وتمنعه عن الإسلام، وإذا لم يكن مسلما به فلا مجال للديانات جميعها؟

لقد جاء القرآن الكريم بما هـو أعلى وأوسع وأكمل من كل المعلومات التي كانت لدي بحيرى الراهب ولدى كل النصارى واليهود في شتى بقاع العالم، وجاء القرآن مصدقا لما نزل على موسى وعيسى وداود وسليمان وغيرهم، من حيث كون الكتب التي نزلت عليهم هـي في الأصل وحي من عند الله، كما جاء القرآن مهيمنا على هـذه الكتب وحاكما عليها، فذكر القرآن أن اليهود والنصارى أوتوا نصيبا من الكتاب، وأنهم نسوا حظا مما ذكروا به، وأنهم حرفوا الكلم عن موضعه، كما بين القرآن الكريم كثيرا من القضايا الكبرى التي كانت موضع خلاف بينهم في العقائد والأحكام والأخبار [10] وهناك العديد من الأمثلة التي خالف فيها القرآن ما ورد من أخبار في كل من العهد القديم والجديد.

فهل أخذ محمد صلى الله عليه وسلم ذلك من الرهبان في رحلته التجارية إلى الشام؟ وهل كان كفار مكة يسكتون عن ذلك لو عرفوا أن محمدا استقى معلوماته من اليهود أو النصارى؟

لقد كانوا يلجأون إلى أوهى المزاعم فلماذا سكتوا عن زعم تلقي محمد عن اليهود والنصارى؟

لقد زعم الزاعمون أن الذي يعلم محمدا هـو عبد رومي كان يصنع السيوف في مكة، فرد عليهم القرآن الكريم زعمهم قائلا: [ ص: 87 ]

( ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ) (النحل: 103) . وحتى المعلومات التي ذكرت في القرآن وكان لها أصل في كتب اليهود أو النصارى لم يكن محمد ولا قومه يعلمون شيئا عنها، ويشير القرآن إلى ذلك بعد قصة نوح مثلا : ( تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هـذا فاصبر إن العاقبة للمتقين ) (هود: 49) . وبعد قصة يوسف يقول القرآن :

( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون ) (يوسف : 102) .

كما أن هـناك من أخبار القرآن ما لم يكن يعرفه أهل الكتاب؛ فقد ذكر القرآن الكريم بعد قصة زكريا وولادة مريم عليهما السلام وكفالته لها قوله تعالى: ( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون ) (آل عمران : 44) [11] .

فمن أين أخذ محمد صلى الله عليه وسلم كل ذلك؟

إنه وحي السماء، فالإسلام ليس دينا تابعا لأي دين آخر، ولكنه الدين الذي أراد الله أن يكون خاتم الأديان، وآخر حلقة في قصة اتصال السماء بالأرض لهداية البشر، وقد أعلن القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى: ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليـكم نعمتي ورضيت لكـم الإسلام دينا ) (المائدة : 3) .

ونود في هـذا الصدد أن نذكر السادة المستشرقين بأن مهد اليهودية والنصرانية والإسلام هـو الشرق، فالشرق هـو مهبط الرسالات [ ص: 88 ] السماوية، وعلى أرضه سار رسل الله يحملون رسالته إلى الناس جميعا، والمقياس لهذه الأديان جميعا لا بد أن يكون مقياسا واحدا؛ لأن مصدرها واحد. ولكن هـذا المقياس الذي نعنيه لن يكون بالتأكيد ذلك المقياس الذي يريد أن يطبقه المستشرقون على علاقة هـذه الأديان بعضها ببعض؛ وهو مقياس التأثير والتأثر كما لو أن الأمر يدور حول شيء إنساني يخضع لهذا المقياس الإنساني.

ولهذا نحن نرفض -ومعنا كل الحق- منهج المستشرقين في دراسة الإسلام؛ لأنه منهج مصطنع جاء وليد اللاهوت الأوروبي؛ ولأنه منهج يقصر عن فهم طبيعة الأديان السماوية، ويحاول أن يضعها في صعيد واحد مع الاتجاهات الفكرية الإنسانية.

التالي السابق


الخدمات العلمية