الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
اتجاهان مختلفان

وقد نشط اللاهوتيون النصارى في ذلك الوقت المبكر ضد الإسلام، وراحوا ينشرون الافتراءات والأكاذيب حول الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم ، وزعموا فيما زعموا أن الإسلام قوة خبيثة شريرة، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس إلا صنما أو إله قبيلة أو شيطانا. وغزت الأساطير الشعبية والخرافات خيال الكتاب اللاتينيين. ولم يكن الهدف بطبيعة الحال هـو عرض صورة موضوعية عن الإسلام، فقد كان هـذا أبعد ما يكون عن أذهان المؤلفين في ذلك الزمان.

وهناك في هـذا الصدد حكايات في وصف الإسلام مغرقة في الخيال وفي الضلال، اخترعها خيال الكتاب في ذلك العصر مثل أنشودة رولاند الشهيرة The Song of Roland، وغيرها من آثار أدبية تصف المسلمين بأنهم عباد أصنام، أو أنهم يعبدون آلهة ثلاثة هـي (تيرفاجان Tervagan ) ، و ( محمد، وأبو للو) .

وقد اعترف أعلم المؤلفين المسئولين عن هـذا الأدب وهو ( جيبير النوجنتي Guibert de Nogent) [ت 1124م] بأنه لا يعتمد في كتاباته عن الإسلام على أية مصادر مكتوبة، وأشار فقط إلى آراء العامة، وأنه لا يوجد لديه أية وسيلة للتمييز بين الخطأ والصواب، ثم قال مبررا كتاباته غير العلمية عن الإسلام ونبيه: [ ص: 22 ]

(لا جناح على المرء إذا ذكر بالسوء من يفوق خبثه كل سوء يمكن أن يتصوره المرء) .

وقد أطلق ساذرن على هـذه الفترة في كتابه: (نظرة الغرب إلى الإسلام في القرون الوسطى) عنوان: (عصر الجهالة) . وهو عصر كان أبعد ما يكون عن روح العلم والموضوعية، وفي ذلك يقول ساذرن : (على أن الشيء الوحيد الذي يجب أن لا نتوقع وجوده في تلك العصور هـو الروح المتحررة الأكاديمية، أو البحث الإنساني الذي تميز به الكثير من البحوث التي تناولت الإسلام في المائة سنة الأخيرة) [1] .

وفي مقابل تلك الصورة البغيضة للإسلام كانت هـناك جهود أخرى للوصول إلى معرفة موضوعية في مجال العلوم العربية مثل الفلسفة والطلب والعلوم الطبيعية، يقول مكسيم رودنسون عن تلك الفترة : (ولا يصادف المرء موقفا موضوعيا في مجال مختلف تماما لا يمت إلى الدين الإسلامي إلا بصلة بعيدة، وأعني العلم بأوسع معانيه) [2] .

وقد أخطأ ( رودنسون ) هـنا في جعله العلم لا يمت إلى الإسلام إلا بصلة بعيدة؛ فقد كان الإسلام في حقيقة الأمر وراء كل إنجاز علمي حققه المسلمون في مختلف المجالات. [ ص: 23 ]

وبدءا من عام 1130م كان العلماء النصارى في أوروبا يعملون جاهدين على ترجمة الكتب العربية في الفلسفة والعلوم، وكان لرئيس أساقفة طليطلة وغيره الفضل في إخراج ترجمات مبكرة لبعض الكتب العلمية العربية، بعد الاقتناع بأن العرب يملكون مفاتيح قدر عظيم من تراث العالم الكلاسيكي. وهذه الحركة التي قامت في أوروبا لترجمة العلوم العربية إلى اللاتينية تشبه تلك الحركة التي قامت في العالم الإسلامي في عهد المأمون ومن سبقه لترجمة العلوم اليونانية وغيرها إلى العربية. وتخدم أيضا الأغراض نفسها التي قامت من أجلها الترجمة في العالم الإسلامي، والتي تتمثل في نشر العلم ورفع المستوى الثقافي من أجل خدمة الحياة الإنسانية وبناء الحضارة. ولكن هـذا الاتصال العلمي العميق بحضارة الإسلام لم يكن له تأثير في تغيير النظرة الغربية للصورة العقيدية أو الإلهية أو التاريخية للإسلام.

وقد كانت هـناك في القرن الثاني عشر أيضا بعض المحاولات للتعرف على الإسلام بقدر من الموضوعية، ولكن مع الهدف الواضح والمعلن وهو محاربة هـذه التعاليم الإسلامية (الإلحادية) ومن أجل ذلك قام بطرس الموقر [ ت 1156م] رئيس رهبان كلوني بتشكيل جماعة المترجمين في إسبانيا ، يعملون كفريق واحد من أجل الحصول على معرفة علمية موضوعية عن الدين الإسلامي، وقد كان بطرس الموقر وراء ظهور أول ترجمة لمعاني القرآن الكريم إلى اللغة اللاتينية في عام 1143م، تلك الترجمة التي قام بها العالم الإنجليزي ( رو برت أوف كيتون Robert of KettoK) [3] .

وقد حاول بطرس الموقر -الذي كان يعتبر الإسلام هـرطقة نصرانية- أن يجد مبررات للجهود التي يقوم بها في مجال الترجمة من أجل التعرف على الإسلام؛ حتى يحظى هـذا العمل بالقبول لدى إخوانه النصارى فقال: [ ص: 24 ]

"إذا كان هـذا العمل يبدو من النوافل الزائدة؛ لأن العدو ليس عرضة للهجوم بمثل هـذا السلاح، فإني أرد بأن في بلاد ملك عظيم تكون بعض الأشياء للدفاع وبعضها للزينة وبعضها لكليهما معا. إن سليمان المسالم صنع الأسلحة للدفاع، ولو أنها لم تكن ضرورية في زمانه، وداود صنع الزينات للهيكل، ولو أنه لم تكن هـناك وسائل لاستعمالها في عصره [4] .

وكذلك الحال مع هـذا العمل، فإذا لم يكن بالإمكان تنصير المسلمين به، فمن حق العالم على الأقل أن يساند إخوانه الضعفاء في الكنيسة الذين يسهل افتضاحهم بأشياء صغيرة" [5] .

ولم تجد (الموضوعية) التي كان يبحث عنها بطرق الموقر تجاوبا في ذلك الزمان، على الرغم من أنها لم تكن موضوعية بالمعنى الصحيح. وإنما يمكن أن تعد (موضوعية موجهة) إن صح التعبير.

يقول ( رودي بارت ) : (حقيقة أن العلماء ورجال اللاهوت في العصر الوسيط كانوا يتصلون بالمصادر الأولى في تعرفهم على الإسلام، وكانوا يتصلون بها على نطاق أوسع، ولكن كل محاولة لتقييم المصادر على نحو موضوعي نوعا ما كانت تصطدم بحكم سابق يتمثل في أن هـذا الدين المعادي للنصرانية لا يمكن أن يكون فيه خير. وهكذا كان الناس لا يولون تصديقهم إلا لتلك المعلومات التي تتفق مع هـذا الرأي المتخذ من قبل، وكانوا يتلقفون بينهم كل الأخبار التي تلوح لهم مسيئة إلى النبي العربي وإلى دين الإسلام) [6] . [ ص: 25 ] ويمكن القول بصفة عامة بأنه قد كان هـناك في هـذه الفترة المبكرة للاستشراق اتجاهان مختلفان فيما يتعلق بالأهداف والمواقف إزاء الإسلام:

أما الاتجاه الأول: فقد كان اتجاها لاهوتيا متطرفا في جدله العقيم، ناظرا إلى الإسلام من خلال ضباب كثيف من الخرافات والأساطير الشعبية.

أما الاتجاه الثاني: فقد كان نسبيا بالمقارنة إلى الاتجاه الأول أقرب إلى الموضوعية والعلمية، ونظر إلى الإسلام بوصفه مهد العلوم الطبيعية والطب والفلسفة.

ولكن الاتجاه الخرافي ظل حيا حتى القرن السابع عشر وما بعده [7] . ولا يزال هـذا الاتجاه للأسف حيا في العصر الحاضر في كتابات بعض المستشرقين عن الإسلام ونبيه.

التالي السابق


الخدمات العلمية