الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
محاولات جادة نحو فهم الإسلام

وعلى الرغم من هـذه الأهداف التنصيرية الواضحة والمعادية في طبيعتها للإسلام فقد شهد نهاية القرن السابع عشر من ناحية أخرى اتجاها آخر مختلفا، استمر أيضا في القرن الثامن عشر، وقد نظر هـذا الاتجاه إلى الإسلام [ ص: 31 ] نظرة موضوعية محايدة، فيها شيء من التعاطف مع الإسلام. وقد شجع على ذلك ظهور النزعة العقلية الجديدة التي بدأت تسود أوروبا حينذاك، والتي كانت في عمومها مخالفة للكنيسة.

وهكذا سنحت الفرصة أمام بعض العقلاء من الأوروبيين للوقوف في وجه الظلم والإجحاف الذي لقيه الإسلام في الغرب في القرون الوسطى، وظهرت بعض المؤلفات العامة المعتدلة عن الإسلام والحضارة الإسلامية، وحل محل الآراء التي تبناها اللاهوتيون حتى ذلك الوقت، والتي تمثلت في وصف محمد صلى الله عليه وسلم بأنه شيطان، وفي وصف القرآن الكريم بأنه مزيج من اللغو الباطل حل محلها آراء أخرى أقل عنفا، وأقرب إلى الاعتدال والإنصاف للإسلام والمسلمين.

ومن بين الأمثلة على ذلك ( ريتشا رد سيمون (Richard Simon فقد تناول في كتابه: (التاريخ النقدي لعقائد وعادات أمم الشرق) 1684م عادات وعقائد المسلمين في وضوح واتزان، مستندا في عرضه لها على مرجع لأحد علماء المسلمين، مبديا تقديره وإعجابه بالعادات الإسلامية. وقد اتهمه (أرنو Arnould ) بأنه كان في حديثه عن الإسلام موضوعيا أكثر من اللازم، فنصحه سيمون بأن يتأمل التعاليم الأخلاقية الرائعة للأخلاقيين الإسلاميين.

وكان الفيلسوف بيير بايل Pierre Bayle من المعجبين بالتسامح الإسلامي، وقد ظهر أثر ذلك في عرضه لحياة محمد صلى الله عليه وسلم في قاموسه التاريخي والنقدي، الذي ظهرت طبعته الأولى في روتردام عام 1697م. أما (سيمون أوكلي Simon OcKley) [1678م - 1720 م] فإن كتابه: تاريخ السراسنة؛ (أي: العرب المسلمين) يعد نسبيا غير متحيز، وقد مجد في هـذا الكتاب الشرق [ ص: 32 ] الإسلامي ورفعه فوق الغرب [1] وتعد هـذه الأمثلة المشار إليها أمثلة رائدة في الاتجاه الجديد نحو الفهم الصحيح للإسلام.

أما أول المحاولات العلمية الجادة للتعرف على الإسلام فقد كانت على يد ( هـادريان ريلاند Hadrian Reland) [ت 1718م] أستاذ اللغات الشرقية في جامعة أوترشت بهولاندا. فقد صدر كتاب باللغة اللاتينية عن الإسلام عام 1705م بعنوان: (الديانة المحمدية) في جزأين، عرض في أولهما: العقيدة الإسلامية معتمدا على مصادر بالعربية واللاتينية. وفي الجزء الثاني: قام بتصحيح الآراء الغربية التي كانت سائدة حينذاك عن تعاليم الإسلام. وقد أثار الكتاب اهتماما عظيما لدرجة أدت إلى إثارة الشبهات حول المؤلف؛ بإتهامه بأنه يريد القيام بعمل دعائي للإسلام، في حين أنه لم يكن يقصد إلا الوصول إلى فهم الدين الإسلامي فهما صحيحا، ممهدا بذلك السبيل إلى محاربته من جانب النصرانية بطريقة أفضل من ذي قبل.

ولكن الكنيسة الكاثوليكية أدرجت الكتاب في قائمة الكتب المحرم تداولها، وعلى الرغم من ذلك ترجم الكتاب إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية والهولندية والإسبانية ويشير ريلاند في مقدمة الكتاب إلى ما تتعرض له كل الأديان باستمرار من جانب خصومها؛ إما بعدم فهمها أو برميها بكل سوء بطريقة تنبىء عن قصد خبيث، وقد تعرض الإسلام إلى مثل ذلك من جانب خصومه مثلما تعرضت الأديان الأخرى. ويقول ريلاند : (إن المرء يصح له حقا أن يبحث عن الحقيقة حيثما كانت) . ولهذا يريد أن يعرض الإسلام لا كما يظهر من خلال ضباب الجهل وخبث الناس، [ ص: 33 ] وإنما كما يدرس حقيقة في مساجد المسلمين ومدارسهم. فلم يحدث أن تعرض دين من الأديان في هـذا العالم في أي عصر من العصور إلى مثل ما تعرض له الإسلام من جانب خصومه من الاحتقار والتشويه والوصف بكل أوصاف السوء. وقد وصل الأمر إلى حد أن من يريد أن يصف نظرية من النظريات بوصف مشين، يصفها بأنها نظرية محمدية. كما لو كان الأمر أنه لا يوجد في تعاليم محمد شيء صحيح، وأن كل ما فيها فاسد. وإذا أبدى أحد رغبة صادقة في التعرف على الإسلام لا تقدم له إلا الكتب المضادة الخبيثة والمليئة بالضلالات.

ويضيف ريلاند قائلا : (ينبغي على المرء بدلا من ذلك أن يتعلم اللغة العربية، وأن يسمع محمدا نفسه وهو يتحدث في لغته، كما ينبغي على المرء أن يقتني الكتب العربية، وأن يرى بعينيه هـو وليس بعيون الآخرين، وحينئذ سيتضح له أن المسلمين ليسوا مجانين كما نظن. فقد أعطى الله العقل لكل الناس. وقد كان في رأيي دائما أن ذلك الدين الذي انتشر انتشارا بعيدا في آسيا وأفريقيا، وفي أوروبا أيضا ليس دينا ماجنا أو دينا سخيفا كما يتخيل كثير من المسيحيين) .

وبعد ذلك يقول ريلاند: (صحيح أن الدين الإسلامي دين سيء جدا وضار بالمسيحية إلى حد بعيد. ولكن، أليس من حق المرء لهذا السبب أن يبحثه؟ ألا ينبغي للمرء أن يكتشف أعماق الشيطان وحيله؟ إن الأحرى هـو أن يسعى المرء للتعرف على الإسلام في حقيقته لكي يحاربه؟ بطريقة أكثر أمانا وأشد قوة) [2] . [ ص: 34 ]

ونعتقد أن عبارات ريلاند الأخيرة هـذه لم تنجه من بطش الكنيسة، التي لم تقتنع بهذه المبررات، فحرمت تداول الكتاب؛ لأنها لم تكن تريد للحقيقة أن ترى النور حتى يطلع عليها جمهور الناس.

وقد شهد القرن الثامن عشر أيضا أنموذجا آخر رائدا في عالم الاستشراق الألماني ممثلا في ( يوهان ج. رايسكه J0J ReisKe )

[1716م - 1774م] الذي كان واحدا من عباقرة علماء العربية في عصره، وأول مستشرق ألماني جدير بالذكر، وإليه يرجع الفضل في إيجاد مكان بارز للدراسات العربية في ألمانيا. ولكن عصره ومعاصريه تجاهلوه، وحاربه رجال اللاهوت متهمينه بالزندقة، ولعل ذلك يرجع إلى موقفه الإيجابي من الإسلام. فقد امتدح الدين الإسلامي في كتاب له باللاتينية، ورفض وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالكذب أو التضليل، أو وصف دينه بأنه خرافات مضحكة، كما كان ذلك سائدا حينذاك، كما رفض تقسيم تاريخ العالم إلى: تاريخ مقدس، وتاريخ غير مقدس. ووضع العالم الإسلامي في قلب التاريخ العالمي، وفوق ذلك عبر عن آرائه بأعظم قدر من الصراحة، غير مكترث بكل العواقب المترتبة على ذلك؛ وقد جر عليه ذلك ويلات كثيرة، وعاش طول حياته في ضائقة مالية، ومات بائسا مسلولا وهو في الثامنة والخمسين من عمره.

وقد قال عنه (فوك) : (لقد أصبح شهيد الأدب العربي، وصارت حياته تاريخا لتلك الآلام التي سجلها في مذكراته، وقد كان من المخجل أن أحدا من الرجال البارزين (في عصره) لم يعرف الأهمية الفائقة لهذا الرجل العبقري الذي كان واحدا من أعظم علماء العربية [3] . [ ص: 35 ]

ولكن هـذه الأمثلة من المحاولات الجادة في التعرف على الإسلام عن قرب وبلا أحكام سابقة لم تستطع أن ترسخ في الفكر الأوروبي تيارا عاما، ولم تستطع بالتالي أن تقضي تماما على الصورة المشوهة للإسلام في أذهان الأوروبيين بصفة عامة، تلك الصورة التي رسختها القرون الوسطى في الأذهان، والتي لا تزال آثارها عالقة بالعقول حتى اليوم. فقد بقيت الصورة في إطارها العام على مر العصور كما هـي، وإن حدث فيها بين الحين والحين -بفضل بعض الظروف- بعض التعديل في الظلال والألوان (والرتوش) الخفيفة.

والدليل على ذلك هـو أن صورة الإسلام في أذهان الأوروبيين لا تزال حتى اليوم صورة مشوهة بعيدة عن الحقيقة.

ولسنا ننكر أن الاستشراق في ذلك العصر بدأ يتخفف من أثقال اللاهوت، وأن حدة الاتهامات ضد الإسلام قد خفت عن ذي قبل، كما أعيد النظر في الاتهامات السابقة، ولكن الانفتاح الفكري كان في محصلته النهائية محدود الأثر، وإن كان من وجهة نظر مكسيم رودنسون يمثل تحولا كبيرا. وفي هـذا الصدد يقول :

(والواقع أن القرن الثامن عشر كان ينظر إلى الشرق الإسلامي نظرة أخوية متفهمة. وقد مكنت الفكرة القائلة بتساوي المواهب لدى جميع الناس، والتي ساعد على انتشارها تفاؤل يفيض بالحيوية كان هـو الدين الحقيقي لذلك العصر، مكنت الناس من القيام بدراسة نقدية للتهم التي وجهتها العصور السابقة إلى العالم الإسلامي... ففي عصر التنوير أصبح المسلمون يعتبرون أناسا مثل غيرهم، وكثير منهم كانوا يفضلون على الأوروبيين ) [4] . [ ص: 36 ]

وإذا سلمنا بما يقوله رودنسون في هـذا الصدد فإنه هـو نفسه لا ينكر أن تلك النظرة التي يتحدث عنها تحولت فيما بعد إلى نظرة أسوأ من ذي قبل، وفي ذلك يقول: (وفي القرن التاسع عشر كان الشرق الإسلامي لا يزال عدوا، ولكنه عدو محكوم عليه بالهزيمة، وكانت البلاد الشرقية أشبه بالشهود المنهارين لماض عريق.

فقد كان المرء يستطيع أن يستمتع بترف امتداحهم في الوقت الذي فيه السياسيون ورجال الأعمال يفعلون كل ما في وسعهم للإسراع في انهيارهم. ولم يكن إمكان صحوهم ولحاقهم بالعصر الحديث يثير أية حماسة، بل إنهم يفقدون في خلال عملية تحديثهم نكهة الغرابة التي كانت مبعث سحرهم ) [5] .

وقد أدى ذلك إلى تغيير في نظرة الغربي إلى الشرقي؛ إذ أصبح الشرقي في نظر الغربي في القرن التاسع عشر كما يقول رودنسون أيضا: (مخلوقا مختلفا بعد أن كان في ظل أيديولوجية الثورة الفرنسية إنسانا قبل كل شيء أصبح الآن سجين خصوصيته، وموضوعا للثناء الذي يمن به عليه بعضهم) [6] .

وهكذا بعد أن كانت النظرة الأوروبية التي كانت توجهها الأيديولوجية العالمية للعصر تحترم غير الأوربيين وتحترم ثقافاتهم، أصبحت الآن في [ ص: 37 ] القرن التاسع عشر نظرة متعالية متغطرسة، وظهرت نظريات تقسم الشعوب إلى أجناس راقية وأجناس مختلفة، فالأولى شعوب آرية والثانية شعوب سامية. وانبرى (رينان) ومن سار على نهجه من المستشرقين والمفكرين الأوروبيين لبيان ما يزعمونه من خصائص للآريين صناع الحضارة وحملة الإبداع الخلاق، والساميين السطحيين في تفكيرهم وفلسفاتهم [7] .

ونكتفي الآن بهذا القدر من الاستطراد حول هـذه النقطة لنستكمل الحديث عن تطور الاستشراق في العصر الحديث. ولنا عودة للحديث مرة أخرى عن النظرة الغربية للشرق الإسلامي عند الحديث عن صلة الاستشراق بالاستعمار.

التالي السابق


الخدمات العلمية