الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[3] خطورة القرآن

القرآن الكريم كتاب مقلق للغربيين، ومحير لهم، ومبلبل لأفكارهم. يقول ( بلاشير ) : (قلما وجدنا بين الكتب الدينية الشرقية كتابا بلبل بقراءته دأبنا الفكري أكثر مما فعله القرآن) [1] .

ولكن الأمر في الواقع ليس مجرد قلق أو حيرة أو بلبلة فكرية، وإنما الأمر أبعد من ذلك بكثير إنه الشعور بخطورة هـذا الكتاب. وقد كان للاستشراق دوره في التحذير من خطورة القرآن على العالم الغربي، فقد تكفل بالكشف عن أخطار القرآن طائفة من المستشرقين الذين أخضعوا بحوثهم العلمية للأهواء الشخصية أو الأهداف السياسية والدينية، فأعماهم ذلك عن الحق، وأضلهم عن سواء السبيل.

عندما تدرس هـذه الفئة القرآن الكريم دراسة عميقة، وتتأمل مبادئه الأساسية، وتتبين مزاياه الفريدة، وما فيه من دعوة إلى الترابط، والاعتصام بحبل الله المتين، والتعاون على البر والتقوى، والتحذير من الشر أو الظلم، والنهي عن السخرية بغيرنا أو التجسس عليه، والتحذير من الغيبة والنميمة، والحض على الصدق والأمانة والعدل والوفاء بالعهد، والحث على طلب العلم والتخلص من الجهل عندما يتبينون ذلك كله يحاولون طمس هـذه الحقائق، وإبعاد المسلمين عنها، ويسارعون إلى أولي الأمر في بلادهم من المستعمرين القدامى أو الجدد، ويوحون إليهم بأن هـذا القرآن كتاب خطير؛ لأنه اشتمل على مبادئ تقيم الدنيا وتقعدها، وإذا [ ص: 95 ] تحقق فهمها وتطبيقها ساد أهله العالم كله وتحكموا في مصيره.

وهذا يعني أن المسلمين إذا عرفوا كتابهم حق المعرفة، وطبقوه تطبيقا تاما، فالويل كل الويل للاستعمار القديم والجديد؛ إذ أنه لن تقوم له قائمة بعد الساعة التي تتم فيها هـذه المعرفة، ويتحقق فيها ذلك التطبيق. ومن ثم يتبين ذلك المجهود الذي يبذله المستعمرون في أن يبقى القرآن مجهولا، وأن تظل مبادئه مهجورة بعيدة عن التنفيذ [2] .

ومن هـنا نعرف سبب هـلع الغرب وفزعه الذي لا حد له عندما يشعر بوجود تيار إسلامي في أي مكان في العالم الإسلامي، أو ما يعرف الآن بالصحوة الإسلامية، التي تعني -لو أحسن ترشيدها- عودة إلى هـذا القرآن الخطير، الذي يزرع العزة في قلوب أبنائه، ويرفض أن يكونوا أذلاء لأعدائهم. وهذا يعني أيضا انطلاق المارد الإسلامي من سجنه ليثبت وجوده مرة أخرى، الأمر الذي يهدد أطماع ومصالح الغرب في الشرق الإسلامي.

وتقوم وسائل الإعلام في الشرق والغرب بتصوير الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي بالتطرف والتشدد والجمود والرجعية والتعصب والإرهاب، وكل ما في القاموس من ألفاظ من هـذا القبيل. ويعمل الغرب والشرق مجتمعين على ألا تقوم للإسلام قائمة مرة أخرى، وهذا هـدف لا خلاف عليه بين كلا المعسكرين، ولكن المسلمين لا يدركون هـذه الحقيقة إدراكا تاما.

وتتجه الجهود إلى تحويل أنظار المسلمين إلى أن طريق الخلاص هـو في اتباع سبيل الغرب العلماني. ولهذا تنطلق الدعوة من جانب بعض المستشرقين إلى إصلاح الإسلام، فالإسلام في زعمهم دين جامد لم يعد مسايرا لروح العصر، ومن أجل ذلك فهو في حاجة إلى إصلاح جذري، وفي ذلك يقول ( ك. كراج K.Cragg) رئيس تحرير مجلة العالم الإسلامي: [ ص: 96 ]

(إن على الإسلام إما أن يعتمد تغييرا جذريا فيه، أو أن يتخلى عـن مسايرة الحياة) [3] .

هذه دعوة يوجهها إلى المسلمين غريب عنهم؛ بشأن ما ينبغي عليهم أن يفعلوه في دينهم، وهذا الإصلاح المزعوم يمثل محاولة تغيير وجهة نظر المسلم عن الإسلام، وجعل الإسلام أقرب إلى النصرانية بقدر الإمكان.

ولعله من نافلة القول أن نشير هـنا إلى أن الإسلام يشتمل على أصول لا يملك أحد أن يغير فيها شيئا؛ وهي عقائد الإسلام الأساسية، ويشتمل على فروع وهي قابلة للتغيير حسب المصلحة الإسلامية، وإن الإصلاح الذي نفهمه نحن المسلمين هـو إصلاح للفكر الإسلامي الذي هـو في حاجة إلى المراجعة المستمرة؛ حتى يتلاءم مع متطلبات العصر وحاجات الأمة في إطار التعاليم الإسلامية، ويعبر الداعية الإسلامي الكبير الشيخ محمد الغزالي عن ذلك بأنه: (مراجعة لا رجوع) .

ولكن الدعوة إلى الإسلام أو تحديثه كما يقال أحيانا ليست بهذا المفهوم، وإنما هـي عبارة عن تفريغ الإسلام من مضمونه، وعزله كلية عن تنظيم أمور المجتمع، وجعله مجرد تعاليم خلقية شأنه في ذلك شأن الديانة النصرانية.

ويتورط بعض من أبناء المسلمين في حمل لواء الدعوة إلى إصلاح الإسلام كما يفهمه المستشرقون، ومن أحدث الكتب في هـذا الشأن كتاب صدر في ألمانيا الغربية منذ عامين (عام 1981م) بعنوان : (أزمة الإسلام الحديث) ، لمؤلف عربي مسلم، يعمل أستاذا في إحدى الجامعات الألمانية، يدعو فيه بحماس إلى الأخذ بالأنموذج الغربي في الإصلاح المتمثل في جعل الدين مجرد [ ص: 97 ] تعاليم خلقية، لا تكاليف إلزامية، فذلك في نظره هـو الحل الوحيد لأزمة الإسلام، وبذلك يتم إبعاد الدين كلية عن التدخل في شئون الحياة حسب الأنموذج العلماني الغربي.

وهكذا نوفر نحن أبناء المسلمين على المستشرقين والمنصرين بذل الجهد في هـذا السبيل، ونتولى نحن الدعوة إلى تحقيق الأهداف التي عاشوا قرونا طويلة يعملون من أجلها دون جدوى.

وقد وصل الأمر في بعض البلاد الإسلامية العلمانية إلى معاملة الفكر الإسلامي معاملة الفكر الماركسي من حيث كونهما خطرا تجب مكافحته، وتعقب الداعين إليه.

وقد قام الاستعمار بالتخطيط المدروس لإضعاف العالم الإسلامي وإبعاده عن مقوماته الإسلامية، ومنع أية محاولة لجمع شمل المسلمين مرة أخرى، ووجد الاستعمار من بين أبناء العالم الإسلامي أناسا ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا أدوات لتحقيق أهدافه. ونحن لا نلقي هـنا القول على عواهنه، وإنما هـذا ما تنطق به الوثائق السرية الاستعمارية نفسها؛ فقد جاء في تقرير وزير المستعمرات البريطاني ( أورمسبي غو ) لرئيس حكومته، بتاريخ 9 يناير (كانون الثاني) ، 1938م ما يأتي: (إن الحرب علمتنا أن الوحدة الإسلامية هـي الخطر الأعظم الذي ينبغي على الإمبراطورية أن تحذره وتحاربه، وليس الإمبراطورية وحدها، بل فرنسا أيضا، ولفرحتنا فقد ذهبت الخلافة، وأتمنى أن تكون إلى غير رجعة.

إن سياستنا الموالية للعرب في الحرب العظمى (يعني الأولى) لم تكن مجرد نتائج لمتطلبات (تكتيكية) ضد القوات التركية، بل كانت مخططة أيضا لفصل السيطرة على المدينتين المقدستين مكة والمدينة عن الخلافة العثمانية التي كانت قائمة آنذاك. [ ص: 98 ]

ولسعادتنا فإن كمال أتاتورك لم يضع تركيا في مسار قومي علماني فقط بل أدخل إصلاحات بعيدة الأثر، أدت بالفعل إلى نقص معالم تركيا الإسلامية.

التالي السابق


الخدمات العلمية