مقدمة
الحمد لله الذي حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وأكرمنا بالإسلام، وشرفنا بحمل رسالته، وناط الفوز والفلاح بهذه الأمة، مادامت تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، ولم يسلط عليها أعداءها تسليط استئصال، ليمنحها فرصة التوبة، واستشعار التحدي، والقدرة على النهوض، واستعادة العافية. والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، فهو وحده محل الأسوة والقدوة، لأنه مؤيد بالوحي ومسدد به، وليست العصمة والقدوة لأحد سواه، فردا كان أو جماعة أو دولة، فكل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هـذا القبر، كما يقول
الإمام مالك رحمه الله.
وبعد:
فهذا كتاب الأمة الثامن عشر (فقه الدعوة: ملامح وآفاق) في سلسلة الكتب التي يصدرها مركز البحوث والمعلومات، برئاسة المحاكم الشرعية والشئون الدينية بدولة قطر، مساهمة في تحقيق الوعي الحضاري، والتحصين الثقافي، ومحاولة إعادة صياغة الشخصية المسلمة، التي افتقدت الكثير من منهجيتها، وفاعليتها، وصوابها، وترشيد العقل المسلم، وتسديد خطا العاملين في مجال الدعوة، وإيجاد الأوعية الشرعية لحركة المسلمين المعاصرة، وتبصيرهم بمحاولات المكر الخارجية، وتسليحهم بطرائق المواجهة، وإيقاظ روح الجهاد، والتركيز على بيان أن الإصابات الداخلية، هـي التي جعلت الجسم الإسلامي مؤهلا وقابلا
[ ص: 7 ] للسقوط في حبائل الأعداء، ليستأنف المسلم دوره، ويقوم بحمل أمانة الاستخلاف، مستثمرا إمكاناته الروحية والذهنية والمادية كلها، شعاره الدائم:
( الحكمة ضالة المؤمن، أينما وجدها فهو أحق بها ) .
ونسارع إلى القول: بأن الذي نقدمه في هـذا الجزء، والذي يليه إن شاء الله، هـو مجموعة من الحوارات، كنت أجريتها في مناسبات متعددة، ونشرت أصولها في "مجلة الأمة" حول فقه الدعوة، والآفاق التي يمكن أن يرتادها الدعاة، وتحديد الموقع الفاعل، من خلال الظروف المحيطة، والإمكانات المتاحة، في محاولة لتمرين ذهنية مسلم اليوم على اكتساب مجموعة من الخبرات، والتحقق بأكثر من وجهة نظر؛ لعل ذلك يغنيه بالتصور الخصب، الذي لا بد منه للحكم على الأشياء بشكل سليم، وبذلك يتخلص من النمطية، والمراوحة في المكان الواحد، وينأى بنفسه عن أن يكون نسخة مكررة، من حيث الزمان والمكان والحركة والأشخاص، وتلك إحدى آفات التحزب والتعصب؛ ذلك أن الاطلاع على وجهات النظر المتعددة والمقارنة بينها يؤهل الإنسان، ويمنحه القدرة على المراجعة والمناصحة والتصويب والتقويم، ويكسبه إمكانية التفريق بين ما هـو ثابت من أصول الدين ومقاصد الشرع، وما هـو متطور متغير من وسائل الدعوة، ومواقع العمل، وصور التعامل مع الحياة المتغيرة، وبذلك يستحق أن يكون وارثا للنبوة، ومنسلكا في نطاق الطائفة القائمة على الحق، الحاملة للرسالة الخالدة.
وقد أكدنا في أكثر من مناسبة: أن عمليات المراجعة، والاعتراف بالخطأ، لا ينتقص من الذات، وإنما يؤدي إلى تزكيتها، ويحول دون تدسيتها، والقضية يجب أن تفهم على أنها تعني باستمرار: المراجعة لوسائل الدعوة لتحقيق كسب أكبر للقضية الإسلامية، وليست الرجوع
[ ص: 8 ] عن طريقها، فالإسلام بالنسبة لنا لا يشكل خيارا، وإنما هـو كيان، وثقافة، وهوية.
ونرى أنه لم يعد للمسلم اليوم خيار في أن يخرج من دائرة الطواف حول الذات، والافتتان بالنفس، والعجب بالرأي، والاقتصار على قراءة ذاته، إلى الاطلاع على وجهات النظر الأخرى، خاصة آراء أولئك الذين يقفون معه على الأرض الواحدة، ويواجهون مكرا وكيدا مشتركا، وإن تنوعت مدارسهم، وتعددت مواقعهم، ويدرك أبعاد الخطاب الإسلامي، الموجه للناس كافة، وأن يستشعر مسئوليته أمام الله في الالتزام بحقوق الأخوة الشاملة، وعدم التسوية بين الذين يتنكبون طريق الإسلام وينحرفون عنه، وبين الذين قد يخطئون ويتطرفون ويغالون في السير فيه، نتيجة لضغوط الأوضاع غير الإسلامية، وهؤلاء أحوج للتصويب والرعاية والحوار، منهم للمواجهة والتهوين والاحتقار.
فإلى أي مدى نستطيع اليوم - وقد تكالب علينا الأعداء من كل جانب - أن نكون قادرين على بناء الخطة الواحدة، التي يأخذ كل منها بطرف، واكتشاف القواسم المشتركة، خاصة وأننا مستهمون في سفينة واحدة، وإن أصاب بعضنا أعلاها، وبعضنا الآخر أسفلها، وأن أي خرق يمكن أن يصيبها - ولو بحسن نية - سيغرقنا جميعا إذا غفلنا عن الحراسة الدائمة، وتعطلت فينا حسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتوقفنا عن المراجعة الدائمة لحركة الأفراد، وتوجهات ومسالك الدعاة والرواد.
ونستطيع أن نقول: بأن هـذه الحوارات التي نقدمها اليوم، تمثل لونا من الشورى واستطلاع الرأي، حول مجموعة من القضايا، نحسب أنها من الأمور الأساسية في فقه الدعوة الإسلامية، حرصنا أن تأتي من أكثر من موقع على خارطة العمل الإسلامي، بمدارسه المتنوعة واجتهاداته
[ ص: 9 ] المتعددة، كما حرصنا أيضا، أن يكون فيها حضور شبه كامل للقائمين على أمر الدعوة، سواء كان ذلك على المستوى الشعبي أو الرسمي أو المؤسسي أو الأكاديمي، إضافة إلى المواقع الجغرافية المتعددة، ما أمكننا ذلك.
والحركة الإسلامية اليوم، بعد هـذه الإحباطات الكثيرة، بحاجة - فيما نحسب - إلى العديد من الاجتهادات، والتعدد في وجهات النظر، لإغناء الرؤية، فلعل جيلا طليعيا ينبثق من خلال هـذه الاجتهادات الكثيرة، يهتدي إلى سبيل الخروج من الأزمة، والخلاص من صور الإحباط المتعددة، ويحدد موطن الخلل، ويصلح الأمور، ويكتشف طريق الصواب المفقود في معادلة المسلم المعاصر، حيث لا بد إلى جانب الإخلاص لله في العمل، من الصواب في الخطو، والبصيرة إلى جانب البصر، والعقل إلى جانب القلب، فقد سئل
الفضيل بن عياض رحمه الله عن العمل الصالح فقال: أخلصه وأصوبه.
وهنا ترد قضية نظن أنها على غاية من الأهمية، ولابد من الإشارة إليها بين يدي هـذه الحوارات، وتجاه الواقع الذي تعيشه الدعوة الإسلامية المعاصرة، على تنوع مدارسها واختلاف وسائلها، وهي أن التجربة الإسلامية التاريخية غنية أيما غنى بتنوع الوسائل، وتعدد المواقع في طريقها إلى عملية التغير المنشود، سواء أكان ذلك في فترة السيرة التي تعتبر البيان العملي، والصورة التطبيقية للرسالة، أم في حياة الصحابة ومسيرة التاريخ الإسلامي الطويلة.
حتى ليمكننا القول: إن كل مدرسة من مدارس العمل الإسلامي اليوم، قادرة على الاستدلال لصحة اختيارها ومنهجها من الكتاب والسنة والسيرة العملية والتاريخ الإسلامي.
فالذي يرى أن التربية والتعليم هـما طريق التغيير يجد لاختياره سندا،
[ ص: 10 ] فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول:
( إنما بعثت معلما ) . وأن أول ما نزل من الوحي قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=96&ayano=1 ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) [العلق:1]. ويستطيع أن يدلل لذلك من الواقع أن أية حركة سوف تكون عشواء وغير مؤتمنة دون علم وتربية.
والذي يستشعر آثار ومخاطر السلطان السياسي، وما يمتلك من وسائل قادرة على التغيير، وإعادة صياغة الجيل، ويستمع إلى قول
سيدنا عثمان رضي الله عنه " إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن " ، قد يرى إرجاء عملية التربية، وينصرف هـمه إلى إصلاح السلطان، أو اكتساب السلطة، ولا يعوزه الاستدلال لما ذهب إليه اختياره.
والذي يرى تكالب الأعداء، والتحديات الكبيرة التي تحيط بالمسلمين من كل جانب، وحركة رءوس الكفر والضلال كيف تستهين بالإسلام وأهله، قد يختار طريق الجهاد والفداء، ويعتبر القعود عن الجهاد هـو الذي حمل الذلة للمسلمين، وأنه لا مجال لإضاعة الوقت بأعمال ووسائل سوف يحبطها العدو في الوقت الذي يشاء لامتلاكه القوة، بإمكانه أيضا الوقوف على الأدلة والشواهد، من خلال التجربة الإسلامية التاريخية.
وبعضهم يرى: أن الاهتمام بأمور المسلمين وإقامة مؤسسات الرعاية الاجتماعية، والتكافل الاجتماعية كفيل بمعالجة الواقع الإسلامي.
وقد تشتد الفتن وتشتد، فيجنح فريق إلى التزام نفسه، واعتزال الناس والعض على جذع شجرة، والانسحاب من المجتمع بعيدا عن دارسة الظروف والملابسات بدقة، مستشهدا لذلك بآيات وأحاديث ووقائع وأدلة من التجربة الإسلامية التاريخية.
وقد لا يكون الوقوف على معرفة الدليل النظري من الكتاب والسنة، أو الحدث والتطبيق العملي، من السيرة والتاريخ وحده كافيا لاختيار وسيلة الدعوة، وطريقة التغيير الملائمة، حيث لا بد مع ذلك من دراسة دقيقة ومتأنية لأسباب نزول الآيات، وسبب ورود الحديث، إضافة إلى دراسة
[ ص: 11 ] شاملة للظروف والملابسات، التي أحاطت بالتطبيق، والمقايسة مع الواقع الذي نحن عليه، حتى نتمكن من الاختيار الصائب، فالرسول صلى الله عليه وسلم مكث في مكة ثلاث عشرة سنة، لم يكسر صنما، لكنه بعد الفتح لم يدع الأصنام لحظة واحدة، بل كان كسر الأصنام أول عمل قام به. ولسنا هـنا بسبيل الاستقصاء لوجهات النظر المتعددة، وإنما هـي نماذج ونوافذ ووسائل للإيضاح فقط.
وقضية أخرى - قد يكون من المفيد طرحها بين يدي هـذه الحوارات أيضا - وهي أن الله سبحانه وتعالى إنما تعبد الإنسان بوسعه واستطاعته، قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286 ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) [البقرة:286].. والخطاب الإسلامي، والتطبيق العملي لهذا الخطاب يحمل من المرونة، والآفاق والأبعاد والأمداء، ما يجعل المسلم مستطيعا، وقادرا على الفعل، والحركة والاستجابة، والكسب الإسلامي، في جميع الظروف والأحوال.. ذلك أن مدى تحركه يبتدئ من قول تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=106 ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) [النحل: 106]، في حالات الشدة والظلم ويتنامى ذلك ا لكسب مستصحبا الاستطاعة حتى يعم الحق، وتتحقق إنسانية الإنسان، وتتقرر حرية الاعتقاد، وتتوقف الفتنة والاضطهاد لقوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=193 ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ) [البقرة:193].. وعلى هـذا فالمسلم يمتلك الفاعلية في الظروف كلها، ولا يفتقدها إلا عندما يحاصر نفسه بنفسه.
وهنا أمريمكن أن يعتبر فرعا عن هـذه القضية، ولا يخرج في عمومه عن نطاق فهم أبعاد الخطاب الإسلامي، وربط مدى الاستجابة له بالوسع والاستطاعة، ذلك أنه من المعلوم، أن من أحكام التكليف ما يقع ضمن استطاعة الفرد، وفي حدود مسئوليته، ومنها ما يناط بوجود الجماعة، كما أن هـناك بعض الأحكام التكليفية يرتبط أمر إنفاذها بوجود الحكم والقضاء الإسلامي، والحاكم المسلم، كقضايا العقوبات من حدود وتعزيرات،
[ ص: 12 ] وعقد المعاهدات، وقضايا السلم والحرب، وسائر السياسات العامة التي ترتبط بوجود السلطان.
والأمرالمطروح والذي لابد من إيضاحه: هـل يحق للفرد المسلم في حال غياب السلطان الإسلامي، أن يعتبر من تكاليفه الشرعية، أن يتولى دور السلطان ويمارس مسئولياته، دون أن يمتلك مقومات السلطة؟ وما يمكن أن يترتب على ذلك من الفوضى والمخاطر، الأمر الذي يستحيل معه الاعتقاد بأن هـذا هـو مقصد شرع الله وغاية تكليفه.
وقد تكون المشكلة كلها في فقه خطاب التكليف، صحيح أن خطاب التكليف عام للناس جميعا، على مستوى الفرد والجماعة والدولة، لكن يبقى الأمر المطروح: ما هـي حدود تكليف الفرد بالنسبة للخطاب المنوط بالسلطان؟ هـل من مقتضى تكليفه قطع يد السارق وإنفاذ حد الحرابة.. إلخ. استجابة لقوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=38 ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما.. ) [المائدة:38]؟.. أو أن تكليفه يتحدد أصلا ضمن ما يقع تحت مقدوره، وأن نصيبه من التكليف كفرد، ليس القيام بأعمال السلطان، وإنما العمل على إيجاد السلطان، الذي يناط به تنفيذ الأحكام، وبذلك يكون مشمولا بخطاب التكليف وليس خارجا عنه؟
نعود إلى القول: بأن التجربة الإسلامية التاريخية - إن صح - التعبير غنية بالوسائل المتعددة للتغيير، من خلال الظروف والملابسات الكثيرة التي مرت بالمسلمين. لكن يبقى الأمر المطروح على العاملين والإسلام خالد يستجيب لكل الظروف والأحوال-: ما هـي الوسيلة المشروعة والمجدية أكثر؟ وكيف نختار الموقع الفاعل والمؤثر؟ من خلال الإمكانات المتاحة والظروف المحيطة؟ مع عدم الإخلال بالتوازن، وضبط النسب، والاحتفاظ بالرؤية الشمولية للرسالة الإسلامية في الوقت نفسه.
[ ص: 13 ]
إن هـذا الموضوع لا يزال في اعتقادنا يشكل أزمة العمل الإسلامي المعاصر، أو أزمة النخبة، كما أنه لا يزال مفقودا وغائبا عن ساحات العمل، اللهم إلا بعض جوانب الكسب الإسلامي الذي لم يؤثر بعد بشكل واضح على المجرى العام للذهنية الإسلامية.
وبعد:
فلا ندعي لعملنا هـذا الكمال، وإنما هـي محاولة، وخطوة على الطريق، يعوزها التواصل المستمر، القصد منها إلغاء الحواجز الفكرية، وإزالة السدود النفسية بين الدعاة إلى الله، وتحطيم الأسوار الحزبية التي قد تحمي غير الأكفياء، وتحرم العمل من إمكانات مقدورة، وتحقيق التعارف عن قرب، بحيث تصبح مدارس العمل الإسلامي المتنوعة حواس متعددة للعقل الإسلامي الواحد، وأجهزة متعددة لوظائف الجسم الإسلامي، الذي يشد بعضه بعضا.
وكم كنت أتمنى أن تتاح مساحة أكبر، للوقوف أكثر وبشكل أفضل عند الكلام عن مداخل الحوارات، لإبراز المنهج، والكلام عن مزاياه، ومناقشة بعض جوانبه - الأمر الذي أرجو أن يتاح في طبعات قادمة - وحسبي في هـذه الطبعة حفظ وتقديم المادة الخام - إن صح التعبير - من خلال الحوار، وفتح الباب أمام الدارسين والمهتمين بالقضية الإسلامية، لمزيد من الإضافات والاستنتاجات والتحليلات لجوانب الموضوع.
وهو لون من التصنيف أرجو أن يكون له دور في تشكيل العقل المسلم، وأن يحقق مساحة مطلوبة في المكتبة الإسلامية مستقبلا. والله أسأل أن يرزقنا الثبات في الأمر والعزيمة في الرشد.
الدوحة : 15 رجب 1408هـ
عمر عبيد حسنة
[ ص: 14 ]
مقدمة
الحمد لله الذي حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وأكرمنا بالإسلام، وشرفنا بحمل رسالته، وناط الفوز والفلاح بهذه الأمة، مادامت تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، ولم يسلط عليها أعداءها تسليط استئصال، ليمنحها فرصة التوبة، واستشعار التحدي، والقدرة على النهوض، واستعادة العافية. والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، فهو وحده محل الأسوة والقدوة، لأنه مؤيد بالوحي ومسدد به، وليست العصمة والقدوة لأحد سواه، فردًا كان أو جماعة أو دولة، فكل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هـذا القبر، كما يقول
الإمام مالك رحمه الله.
وبعد:
فهذا كتاب الأمة الثامن عشر (فقه الدعوة: ملامح وآفاق) في سلسلة الكتب التي يصدرها مركز البحوث والمعلومات، برئاسة المحاكم الشرعية والشئون الدينية بدولة قطر، مساهمة في تحقيق الوعي الحضاري، والتحصين الثقافي، ومحاولة إعادة صياغة الشخصية المسلمة، التي افتقدت الكثير من منهجيتها، وفاعليتها، وصوابها، وترشيد العقل المسلم، وتسديد خطا العاملين في مجال الدعوة، وإيجاد الأوعية الشرعية لحركة المسلمين المعاصرة، وتبصيرهم بمحاولات المكر الخارجية، وتسليحهم بطرائق المواجهة، وإيقاظ روح الجهاد، والتركيز على بيان أن الإصابات الداخلية، هـي التي جعلت الجسم الإسلامي مؤهلًا وقابلًا
[ ص: 7 ] للسقوط في حبائل الأعداء، ليستأنف المسلم دوره، ويقوم بحمل أمانة الاستخلاف، مستثمرًا إمكاناته الروحية والذهنية والمادية كلها، شعاره الدائم:
( الحكمة ضالة المؤمن، أينما وجدها فهو أحق بها ) .
ونسارع إلى القول: بأن الذي نقدمه في هـذا الجزء، والذي يليه إن شاء الله، هـو مجموعة من الحوارات، كنت أجريتها في مناسبات متعددة، ونشرت أصولها في "مجلة الأمة" حول فقه الدعوة، والآفاق التي يمكن أن يرتادها الدعاة، وتحديد الموقع الفاعل، من خلال الظروف المحيطة، والإمكانات المتاحة، في محاولة لتمرين ذهنية مسلم اليوم على اكتساب مجموعة من الخبرات، والتحقق بأكثر من وجهة نظر؛ لعل ذلك يغنيه بالتصور الخصب، الذي لا بد منه للحكم على الأشياء بشكل سليم، وبذلك يتخلص من النمطية، والمراوحة في المكان الواحد، وينأى بنفسه عن أن يكون نسخة مكررة، من حيث الزمان والمكان والحركة والأشخاص، وتلك إحدى آفات التحزب والتعصب؛ ذلك أن الاطلاع على وجهات النظر المتعددة والمقارنة بينها يؤهل الإنسان، ويمنحه القدرة على المراجعة والمناصحة والتصويب والتقويم، ويكسبه إمكانية التفريق بين ما هـو ثابت من أصول الدين ومقاصد الشرع، وما هـو متطور متغير من وسائل الدعوة، ومواقع العمل، وصور التعامل مع الحياة المتغيرة، وبذلك يستحق أن يكون وارثًا للنبوة، ومنسلكًا في نطاق الطائفة القائمة على الحق، الحاملة للرسالة الخالدة.
وقد أكدنا في أكثر من مناسبة: أن عمليات المراجعة، والاعتراف بالخطأ، لا ينتقص من الذات، وإنما يؤدي إلى تزكيتها، ويحول دون تدسيتها، والقضية يجب أن تفهم على أنها تعني باستمرار: المراجعة لوسائل الدعوة لتحقيق كسب أكبر للقضية الإسلامية، وليست الرجوع
[ ص: 8 ] عن طريقها، فالإسلام بالنسبة لنا لا يشكل خيارًا، وإنما هـو كيان، وثقافة، وهُوِيَّة.
ونرى أنه لم يعد للمسلم اليوم خيار في أن يخرج من دائرة الطواف حول الذات، والافتتان بالنفس، والعجب بالرأي، والاقتصار على قراءة ذاته، إلى الاطِّلاع على وجهات النظر الأخرى، خاصة آراء أولئك الذين يقفون معه على الأرض الواحدة، ويواجهون مكرًا وكيدًا مشتركًا، وإن تنوعت مدارسهم، وتعددت مواقعهم، ويدرك أبعاد الخطاب الإسلامي، الموجه للناس كافة، وأن يستشعر مسئوليته أمام الله في الالتزام بحقوق الأخوة الشاملة، وعدم التسوية بين الذين يتنكبون طريق الإسلام وينحرفون عنه، وبين الذين قد يخطئون ويتطرفون ويغالون في السير فيه، نتيجة لضغوط الأوضاع غير الإسلامية، وهؤلاء أحوج للتصويب والرعاية والحوار، منهم للمواجهة والتهوين والاحتقار.
فإلى أي مدى نستطيع اليوم - وقد تكالب علينا الأعداء من كل جانب - أن نكون قادرين على بناء الخطة الواحدة، التي يأخذ كل منها بطرف، واكتشاف القواسم المشتركة، خاصة وأننا مستهمون في سفينة واحدة، وإن أصاب بعضنا أعلاها، وبعضنا الآخر أسفلها، وأن أي خرق يمكن أن يصيبها - ولو بحسن نية - سيغرقنا جميعًا إذا غفلنا عن الحراسة الدائمة، وتعطلت فينا حسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتوقفنا عن المراجعة الدائمة لحركة الأفراد، وتوجهات ومسالك الدعاة والرواد.
ونستطيع أن نقول: بأن هـذه الحوارات التي نقدمها اليوم، تمثل لونًا من الشورى واستطلاع الرأي، حول مجموعة من القضايا، نحسب أنها من الأمور الأساسية في فقه الدعوة الإسلامية، حرصنا أن تأتي من أكثر من موقع على خارطة العمل الإسلامي، بمدارسه المتنوعة واجتهاداته
[ ص: 9 ] المتعددة، كما حرصنا أيضًا، أن يكون فيها حضور شبه كامل للقائمين على أمر الدعوة، سواء كان ذلك على المستوى الشعبي أو الرسمي أو المؤسسي أو الأكاديمي، إضافة إلى المواقع الجغرافية المتعددة، ما أمكننا ذلك.
والحركة الإسلامية اليوم، بعد هـذه الإحباطات الكثيرة، بحاجة - فيما نحسب - إلى العديد من الاجتهادات، والتعدد في وجهات النظر، لإغناء الرؤية، فلعل جيلًا طليعيًا ينبثق من خلال هـذه الاجتهادات الكثيرة، يهتدي إلى سبيل الخروج من الأزمة، والخلاص من صور الإحباط المتعددة، ويحدد موطن الخلل، ويصلح الأمور، ويكتشف طريق الصواب المفقود في معادلة المسلم المعاصر، حيث لا بد إلى جانب الإخلاص لله في العمل، من الصواب في الخطو، والبصيرة إلى جانب البصر، والعقل إلى جانب القلب، فقد سئل
الفضيل بن عياض رحمه الله عن العمل الصالح فقال: أخلصه وأصوبه.
وهنا ترد قضية نظن أنها على غاية من الأهمية، ولابد من الإشارة إليها بين يدي هـذه الحوارات، وتجاه الواقع الذي تعيشه الدعوة الإسلامية المعاصرة، على تنوع مدارسها واختلاف وسائلها، وهي أن التجربة الإسلامية التاريخية غنية أيما غنًى بتنوع الوسائل، وتعدد المواقع في طريقها إلى عملية التغير المنشود، سواء أكان ذلك في فترة السيرة التي تعتبر البيان العملي، والصورة التطبيقية للرسالة، أم في حياة الصحابة ومسيرة التاريخ الإسلامي الطويلة.
حتى ليمكننا القول: إن كل مدرسة من مدارس العمل الإسلامي اليوم، قادرة على الاستدلال لصحة اختيارها ومنهجها من الكتاب والسنة والسيرة العملية والتاريخ الإسلامي.
فالذي يرى أن التربية والتعليم هـما طريق التغيير يجد لاختياره سندًا،
[ ص: 10 ] فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول:
( إنما بعثت معلمًا ) . وأن أول ما نزل من الوحي قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=96&ayano=1 ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) [العلق:1]. ويستطيع أن يدلل لذلك من الواقع أن أية حركة سوف تكون عشواء وغير مؤتمنة دون علم وتربية.
والذي يستشعر آثار ومخاطر السلطان السياسي، وما يمتلك من وسائل قادرة على التغيير، وإعادة صياغة الجيل، ويستمع إلى قول
سيدنا عثمان رضي الله عنه " إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن " ، قد يرى إرجاء عملية التربية، وينصرف هـمه إلى إصلاح السلطان، أو اكتساب السلطة، ولا يعوزه الاستدلال لما ذهب إليه اختياره.
والذي يرى تكالب الأعداء، والتحديات الكبيرة التي تحيط بالمسلمين من كل جانب، وحركة رءوس الكفر والضلال كيف تستهين بالإسلام وأهله، قد يختار طريق الجهاد والفداء، ويعتبر القعود عن الجهاد هـو الذي حمل الذلة للمسلمين، وأنه لا مجال لإضاعة الوقت بأعمال ووسائل سوف يحبطها العدو في الوقت الذي يشاء لامتلاكه القوة، بإمكانه أيضًا الوقوف على الأدلة والشواهد، من خلال التجربة الإسلامية التاريخية.
وبعضهم يرى: أن الاهتمام بأمور المسلمين وإقامة مؤسسات الرعاية الاجتماعية، والتكافل الاجتماعية كفيل بمعالجة الواقع الإسلامي.
وقد تشتد الفتن وتشتد، فيجنح فريق إلى التزام نفسه، واعتزال الناس والعض على جذع شجرة، والانسحاب من المجتمع بعيدًا عن دارسة الظروف والملابسات بدقة، مستشهدًا لذلك بآيات وأحاديث ووقائع وأدلة من التجربة الإسلامية التاريخية.
وقد لا يكون الوقوف على معرفة الدليل النظري من الكتاب والسنة، أو الحدث والتطبيق العملي، من السيرة والتاريخ وحده كافيًا لاختيار وسيلة الدعوة، وطريقة التغيير الملائمة، حيث لا بد مع ذلك من دراسة دقيقة ومتأنية لأسباب نزول الآيات، وسبب ورود الحديث، إضافة إلى دراسة
[ ص: 11 ] شاملة للظروف والملابسات، التي أحاطت بالتطبيق، والمقايسة مع الواقع الذي نحن عليه، حتى نتمكن من الاختيار الصائب، فالرسول صلى الله عليه وسلم مكث في مكة ثلاث عشرة سنة، لم يكسر صنمًا، لكنه بعد الفتح لم يدع الأصنام لحظة واحدة، بل كان كسر الأصنام أول عمل قام به. ولسنا هـنا بسبيل الاستقصاء لوجهات النظر المتعددة، وإنما هـي نماذج ونوافذ ووسائل للإيضاح فقط.
وقضية أخرى - قد يكون من المفيد طرحها بين يدي هـذه الحوارات أيضًا - وهي أن الله سبحانه وتعالى إنما تعبد الإنسان بوسعه واستطاعته، قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286 ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ) [البقرة:286].. والخطاب الإسلامي، والتطبيق العملي لهذا الخطاب يحمل من المرونة، والآفاق والأبعاد والأمداء، ما يجعل المسلم مستطيعًا، وقادرًا على الفعل، والحركة والاستجابة، والكسب الإسلامي، في جميع الظروف والأحوال.. ذلك أن مدى تحركه يبتدئ من قول تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=106 ( إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ) [النحل: 106]، في حالات الشدة والظلم ويتنامى ذلك ا لكسب مستصحبًا الاستطاعة حتى يعم الحق، وتتحقق إنسانية الإنسان، وتتقرر حرية الاعتقاد، وتتوقف الفتنة والاضطهاد لقوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=193 ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ) [البقرة:193].. وعلى هـذا فالمسلم يمتلك الفاعلية في الظروف كلها، ولا يفتقدها إلا عندما يحاصر نفسه بنفسه.
وهنا أمريمكن أن يُعتبر فرعًا عن هـذه القضية، ولا يخرج في عمومه عن نطاق فهم أبعاد الخطاب الإسلامي، وربط مدى الاستجابة له بالوسع والاستطاعة، ذلك أنه من المعلوم، أن من أحكام التكليف ما يقع ضمن استطاعة الفرد، وفي حدود مسئوليته، ومنها ما يُناط بوجود الجماعة، كما أن هـناك بعض الأحكام التكليفية يرتبط أمر إنفاذها بوجود الحكم والقضاء الإسلامي، والحاكم المسلم، كقضايا العقوبات من حدود وتعزيرات،
[ ص: 12 ] وعقد المعاهدات، وقضايا السلم والحرب، وسائر السياسات العامة التي ترتبط بوجود السلطان.
والأمرالمطروح والذي لابد من إيضاحه: هـل يحق للفرد المسلم في حال غياب السلطان الإسلامي، أن يعتبر من تكاليفه الشرعية، أن يتولَّى دور السلطان ويمارس مسئولياته، دون أن يمتلك مقومات السلطة؟ وما يمكن أن يترتب على ذلك من الفوضى والمخاطر، الأمر الذي يستحيل معه الاعتقاد بأن هـذا هـو مقصد شرع الله وغاية تكليفه.
وقد تكون المشكلة كلها في فقه خطاب التكليف، صحيح أن خطاب التكليف عام للناس جميعًا، على مستوى الفرد والجماعة والدولة، لكن يبقى الأمر المطروح: ما هـي حدود تكليف الفرد بالنسبة للخطاب المنوط بالسلطان؟ هـل من مقتضى تكليفه قطع يد السارق وإنفاذ حد الحرابة.. إلخ. استجابة لقوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=38 ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا.. ) [المائدة:38]؟.. أو أن تكليفه يتحدد أصلًا ضمن ما يقع تحت مقدوره، وأن نصيبه من التكليف كفرد، ليس القيام بأعمال السلطان، وإنما العمل على إيجاد السلطان، الذي يناط به تنفيذ الأحكام، وبذلك يكون مشمولًا بخطاب التكليف وليس خارجًا عنه؟
نعود إلى القول: بأن التجربة الإسلامية التاريخية - إن صح - التعبير غنية بالوسائل المتعددة للتغيير، من خلال الظروف والملابسات الكثيرة التي مرت بالمسلمين. لكن يبقى الأمر المطروح على العاملين والإسلام خالد يستجيب لكل الظروف والأحوال-: ما هـي الوسيلة المشروعة والمجدية أكثر؟ وكيف نختار الموقع الفاعل والمؤثر؟ من خلال الإمكانات المتاحة والظروف المحيطة؟ مع عدم الإخلال بالتوازن، وضبط النسب، والاحتفاظ بالرؤية الشمولية للرسالة الإسلامية في الوقت نفسه.
[ ص: 13 ]
إن هـذا الموضوع لا يزال في اعتقادنا يشكل أزمة العمل الإسلامي المعاصر، أو أزمة النخبة، كما أنه لا يزال مفقودًا وغائبًا عن ساحات العمل، اللهم إلا بعض جوانب الكسب الإسلامي الذي لم يؤثر بعد بشكل واضح على المجرى العام للذهنية الإسلامية.
وبعد:
فلا ندعي لعملنا هـذا الكمال، وإنما هـي محاولة، وخطوة على الطريق، يعوزها التواصل المستمر، القصد منها إلغاء الحواجز الفكرية، وإزالة السدود النفسية بين الدعاة إلى الله، وتحطيم الأسوار الحزبية التي قد تحمي غير الأكفياء، وتحرم العمل من إمكانات مقدورة، وتحقيق التعارف عن قرب، بحيث تصبح مدارس العمل الإسلامي المتنوعة حواس متعددة للعقل الإسلامي الواحد، وأجهزة متعددة لوظائف الجسم الإسلامي، الذي يشد بعضه بعضًا.
وكم كنت أتمنى أن تتاح مساحة أكبر، للوقوف أكثر وبشكل أفضل عند الكلام عن مداخل الحوارات، لإبراز المنهج، والكلام عن مزاياه، ومناقشة بعض جوانبه - الأمر الذي أرجو أن يتاح في طبعات قادمة - وحسبي في هـذه الطبعة حفظ وتقديم المادة الخام - إن صح التعبير - من خلال الحوار، وفتح الباب أمام الدارسين والمهتمين بالقضية الإسلامية، لمزيد من الإضافات والاستنتاجات والتحليلات لجوانب الموضوع.
وهو لون من التصنيف أرجو أن يكون له دور في تشكيل العقل المسلم، وأن يحقق مساحة مطلوبة في المكتبة الإسلامية مستقبلًا. والله أسأل أن يرزقنا الثبات في الأمر والعزيمة في الرشد.
الدوحة : 15 رجب 1408هـ
عمر عبيد حسنة
[ ص: 14 ]