الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  عوامل النجاح والفشل

                  ** إن تجارب العمل الإسلامي في مجال الدعوة إلى الله أصابت في بعض الجوانب، وكان لها أيضا بعض السلبيات.. هـل يمكن من خلال استقراء واقع هـذه التجارب، تحديد عوامل النجاح والفشل للعمل الإسلامي اليوم، على ضوء التجارب الميدانية ليكون ذلك بصيرة للدعاة والعاملين للإسلام.

                  أكبر عوامل النجاح أولا: الإخلاص والتفاني في الدعوة، والتجرد عن الشهوات، تجردا عن استغلال هـذه الدعوة لمآرب ولمنافع شخصية. ثم الابتعاد عن إثارة المشكلات التي ليست بواقعية وليست بلازمة. فإننا نلاحظ أن كثيرا من الدعاة يثيرون مشكلات ويثيرون صداما، ويدخلون في معارك قبل وقتها فيتورطون في مآزق وفي مشاكل كانوا في غنى عنها.. كان يمكن لهم أن يشقوا طريقهم إلى الأمام من غير أن يتعرضوا لها.

                  وهناك نماذج من الدعوة الإسلامية في هـذا المجال، ومن أنجح هـذه النماذج النجاج الذي حققه الإمام السرهندي في الهند مثلا، ابتلي بحكومة قوية من أقوى الحكومات ليس في البلاد الإسلامية فقط، بل على وجه الأرض.. وكانت هـذه الحكومة مندفعة، متجهة إلى محو الإسلام من هـذه البلاد، لأسباب كثيرة يطول ذكرها.. بحثتها في كتابي (الإمام السرهندي) ، الذي صدر أخيرا.. اختار الطريق الأسلم والأكثر فائدة.. الطريق الهادئ.. لم يصطدم بالحكومة ولكنه أثر في البلاط.. أثر في أركان الدولة.. صار يراسلهم ويتصل بهم ويثير فيهم النخوة الإسلامية والحمية الدينية، يقول لهم: أنتم مسلمون، وآباؤكم كانوا مسلمين، والبلاد الآن متجهة إلى البرهمية وإلى اللادينية، فيجب أن تقوموا لهذا وأن تتجهوا بالدولة الوجهة الإسلامية، فاستطاع أن يصرفهم إلى نفسه وأن يحتضنوا هـذه الدعوة وأن يتبنوها، فقاموا والتفوا حوله.

                  ولما مات الملك أكبر الذي كان معاديا للإسلام لأسباب كثيرة، لما لقي حتفه، جاء الملك (جهانكير) وكان خيرا منه، وكان الإمام السرهندي قد هـيأ الجو لهذا الملك، فاجتمعوا حوله ووجهوه إلى الوجهة السليمة، إلى تبني الإسلام والانتفاع بهذه القوة الجبارة، فاستطاع أن يحول تيار البلاد من المعاداة الإسلام ومحوه إلى حماية الإسلام. [ ص: 27 ]

                  أصبح الملك حاميا للإسلام بعد ما كان ماحيا للإسلام، وأصبح خادما للإسلام بعد ما كان هـادما للإسلام. استطاع هـذا الرجل الوحيد الأعزل الذي كان يعيش في ركن من أركان هـذه الأرض الواسعة، استطاع بفضل الألم والتوجع الذي ملكه والإخلاص والتجرد الخالص الكامل - الذي ما كانت تشوبه شائبة من الأنانية ومن حب الدنيا - والفهم الكامل للظروف والإمكانات؛ استطاع أن يحول هـذا التيار من جهات معادية معاكسة إلى جهة موافقة ومطابقة للإسلام.

                  فأنا أقول: يجب على الداعي أن يحترز بقدر الإمكان عن إثارة المشكلات حوله وعن إثارة العداوات والإحن.. والسبب الكبير الذي يبعث الإحن والعداوات هـو إذا رأت حكومة ما أن هـذا الرجل يريد أن يأخذ مكانها، فالمسلم إنما هـو صاحب دعوة وهو ناصح مخلص ليس له غرض أبدا.. حتى إذا اطمأن أن هـذا الرجل نفسه أو هـذه الحكومة نفسها تطبق ما يريد تطبيقه في هـذه البيئة فهو من أول المرحبين، وأول المساعدين لهذا الرجل وهذه الحكومة.. هـكذا فعل الإمام السرهندي .. ليس المقصود إبدال شخص بشخص وإبدال أسرة بأسرة.. وإنما استبدال حسن بسيئ لا سيئ بحسن، من حيث النتيجة.

                  ** كأنما يبدو لي والله أعلم كتتمة لهذه الصورة، أنه يمكن أن يكون من السلبيات التي أصابت العمل الإسلامي: عدم القدرة على تحديد الموقع الذي يستطيع الدعاة التحرك من خلاله بدقة، فكان الأولى بهم أن يحددوا المواقع التي تتوافق مع الإمكانات التي يملكونها.. هـل تعتقدون بأن ترك المسلمين للمواقع التي يستطيعون أن يكونوا فيها فاعلين إلى المواقع التي لا يستطيعون أن يفعلوا فيها، كان من السلبيات التي أصابت العمل الإسلامي؟ هـلا تفضلتم بإيضاح هـذه النقطة؟!

                  هذا كان منهج الدعاة الأولين وفي مقدمتهم وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين كتب إلى هـرقل يقول: ( أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين ) البدء أولا بدعوة الشعوب والبلاد - التي كانوا يفتحونها - إلى الإسلام. فإذا قبلوا الإسلام، أهلا وسهلا، أنتم أصحاب البلاد، أصحاب الكرسي تنفذوا أوامر الله تبارك وتعالى. وإذا لم يقبلوا هـذا فالجزية.. وإذا لم يقبلوا فالحرب إذا.. ولكن نحن نخشى أن نكون قد عكسنا القضية الحرب أولا.. وأنتم تعرفون أن الإنسان مفطور على المحافظة على ما يملكه. [ ص: 28 ]

                  ** وسؤالنا الآن أيضا هـو وجه آخر للقضية: من خلال التجارب التي عشتموها وعايشتموها: ما هـي أفضل الوسائل في العصر الحديث التي على الدعاة التزامها لنشر هـذا الدين خلال الظروف الحاضرة؟ نعني بذلك نوعا من إعطائهم الضوء الذي يسيرون عليه؟

                  والله، لم يزل ولا يزال - إلى أن يرث الله هـذه الأرض ومن عليها - الشيء الأول والأكثر تأثيرا هـو الأنموذج العملي (ما يسمى بنشر الدعوة بالقدوة العملية، التربية بالقدوة) ، التجرد من الشهوات، من الأنانيات، والإخلاص لله تبارك وتعالى، والتوجه للفكر وللدعوة، ثم عرض الفكرة الإسلامية في أسلوب عصري شائق، وموافق للمستوى العقلي الذي يعيشه الجيل الجديد، إذا قلت هـذا فإنني لا أعني أنه يجب على الداعية ألا يستخدم المصطلحات السياسية والعصرية كما - لعلكم - لاحظتم في كتابنا (التفسير السياسي للإسلام) ، ولكن لا بد أن يكون الأسلوب أسلوبا عصريا إلى حد يتفق مع روح الإسلام، خشية الخروج عن هـذا الروح!!

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية