الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  محاولات تصفية القرويين

                  ** وننتقل في حوارنا مع الشيخ كنون إلى الحديث الأثير عنده، وهو ما يدور حول القرويين، فثقافته القروية يعتز بها غاية الاعتزاز، بل ويحمد الله على أنه لم يتعرض لفتنة الاغترار بالتقاط بعض الفتات المتساقط من موائد غيرها من الجامعات الأجنبية، "فنتنكر لها ولثقافتها، ونلعنها لنصبح تقدميين غير رجعيين (!) " على حد قوله.

                  وحول دور القرويين كحصن إسلامي ثقافي انطلقت منه كتائب الجهاد ضد المستعمر الإسباني والفرنسي، كما انطلقت منه فصائل الحركات الإصلاحية التي يزخر بها تاريخ المغرب، يقول الشيخ: [ ص: 111 ]

                  إن كلمات بعض أعمدة الاستعمار، والحكام بأمرهم من مندوبي فرنسا في المغرب هـي التي تؤكد أكثر من غيرها بأن معظم الإنطلاقات الكبرى لمقاومة الاستعمار كانت تقوم من القرويين، إذ كانوا يطلقون عليها اسم "البيت المظلم" وقد بذل المستعمر جهده من أجل القضاء على هـذا البيت، "فالقرويين" لم تكن فقط جامعة دينية، وإنما كانت المؤسسة الوحيدة في المغرب التي تهيئ أطر الدولة في جمع مراتب التأطير، فحكام المغرب من وزراء ورؤساء ومديرين، وكذلك بعض الملوك، درسوا في القرويين، وذلك حتى بدء فرض الحماية الفرنسية على المغرب عام 1912م، عندما احتاجت الدولة -بموجب تطعيمها بالنظم الغربية واتصالها بحضارة الغرب، أو بموجب تحكم الاستعمار الذي أنشأ إدارة على غرار الإدارة في بلده -احتاجت إلى إنشاء مؤسسات أخرى إلى جانب القرويين،ليجري فيها إعداد موظفين على النمط الذي يريده المستعمر.. وقد كان.

                  وماذا عن موقف أبناء القرويين- وعناصر القوى الوطنية الأخرى في المغرب- من فكرة التعليم التي روج لها الاستعمار؟

                  كنا نطالب طيلة فترة الاستعمار بإنشاء جامعة عصرية إلى جانب القرويين، وذلك بهدف توطين التعليم العالي، حتى يتلقى أبناؤنا دراستهم الجامعية في بلدهم بدلا من أن يتلقوها خارجها -في فرنسا أو غيرها- ولكننا لم نحصل على هـذا الطلب إلا بعد الاستقلال، حيث تم إنشاء جامعة محمد الخامس في الرباط كأول جامعة عصرية في المغرب، وإنما كنا نجاهد أيضا قبل الاستقلال وبعده من أجل عودة القرويين إلى سالف مجدها بعد أن عانت من الإغفال، إن لم تقل الإهمال.. وفي هـذا الصدد كنا نتوقع أن تتوقف الحرب على القرويين بعد الاستقلال، وأن يعاد النظر في وضعيتها، وأن يمكن لرجالها من تخطيط برامج ومناهج تجعلها قادرة على مواصلة أداء رسالتها الإنسانية، "فالقرويين" تراث إنساني ملك للإنسانية جمعاء بحق ولكن فوجئنا بعد الاستقلال بمشاهدة العناصر نفسها التي كانت للقرويين قبل الاستقلال، وقد عادت لتواصل كيدها وتربصها مستخدمة كل الوسائل لتدمير ذلك الكيان، على اعتبار أنه يمثل العقبة الكأداء التي تحول دون تحقيق تلك العناصر لخططها الهادفة للقضاء على كل ما من شأنه أن يجعل الأمة تتمسك بدينها ومقوماتها الأصلية.

                  ولعله من الغريب حقا أن وزارة التربية آنذاك هـي التي لعبت دورا كبيرا في محاولة تحطيم [ ص: 112 ] القرويين وتصفيتهم تصفية نهائية، وذلك بمقتضى برامجها التي عزمت على تنفيذها في السنة التعليمية (1960م-1961م) .

                  ** وما هـو مضمون هـذه البرامج؟

                  تتضمن هـذه البرامج مخططات لإدماج الطور الأول من التعليم الإسلامي القروي والسنوات الأولى من الثانوي الخاصة به في التعليم العصري العام.. ونصب مدير للقرويين لا صلة له البتة بطبيعة تعليمها ومناهجها وثقافتها، كما تم فرض أطر من الموظفين البعيدين تمام البعد عن سلك التعليم الإسلامي القروي ولا يفهمون عنه مدلولا ولا دالا.. وكان قد سبق تلك الإجراءات إلغاء جامعة ابن يوسف بمراكش التي تشبه دراستها إلى حد كبير دراسة القرويين.. كما ألغي المعهد بتطوان ، وتم تحويل المعهد والجامعة إلى تدبيرات أخرى ثانوية.

                  ** وماذا كان موقف أبناء القرويين؟

                  بطبيعة الحال ثارت حفيظتهم لهذه السياسة التعليمية، فعقدوا مؤتمرا كبيرا في الرباط ، شارك فيه نحو أربعمائة عالم يمثلون جميع الأقاليم المغربية، واستغرق يومين (18-19 سبتمبر 1960م) ، تناولوا فيه بالمناقشة موضوع التعليم الإسلامي القروي وما يتهدده -بصفة خاصة- وأعلنوا رفضهم لهذه السياسة مشيرين إلى أن حذف الطور الأول، والسنوات الثلاث الأولى من ثانوي التعليم الإسلامي، سوف لا تعوض بحال فيما بقي من أقسام هـذا التعليم، مما يعني حدوث فراغ يكون عاملا قويا في ضعف النتائج المحصلة في المعلومات الإسلامية عند الطالب القروي حين التخرج.. كما قرر المؤتمرون رفضهم المدير المعين للقرويين من غير خريجيها، لأن أقل ما يعبر عنه هـذا التعيين إنما هـو عجز رجال القرويين حتى عن تدبير شئون جامعتهم التي هـم أولى بها من غيرهم أيا كان.

                  ** وهل صدر عن هـذا المؤتمر موقف إيجابي؟

                  نعم، ففي السابع والعشرين من يونيو 1961م التقى وفد من رابطة علماء المغرب بالسيد وزير التربية الوطنية (بالإنابة) وقدم له مشروعا ترى الرابطة أنه ضروري لتطوير التعليم الإسلامي في المغرب وإقرار جامعة "القرويين" والعناية بها وتنظيم الدراسة فيها تنظيما يضمن لها الحياة والتجدد والاستمرار في أداء رسالتها العلمية والثقافية لا على نطاق المغرب فحسب وإنما على المستوى الإسلامي العربي والأفريقي بصفة عامة. [ ص: 113 ]

                  ** ويلخص الشيخ عبد الله كنون هـذا المشروع في عدة نقاط:

                  - الاعتراف رسميا بجامعة "القرويين" وتعليمها وشهاداتها وباستقلال إدارتها كما هـو الشأن في غيرها من الجامعات.. مع قصر النظر في شئونها وتولي مديريتها على خريجيها وحاملي شهاداتها دون غيرهم..

                  - إحداث كليتين للغة العربية وأصول الدين تكون إحداهما بمراكش في الجنوب والأخرى بتطوان في الشمال وذلك لتعويض القسم النهائي الذي كان بكل من المدينتين وجرى إلغاؤه.

                  - الاحتفاظ للمدارس الثانوية الإسلامية ببرامجها الكاملة واستقلالها الذاتي مما يمنع إدماجها كلا أو بعضا في غيرها بدعوى التوحيد أو غيره من العلل، مع تطويرها وتلقيحها بمواد الثقافة العامة الضرورية وإدخال اللغات الأجنبية اللازمة إليها من غير أن يطغى ذلك على المادة الأصلية التي ينبغي لها الاعتبار الأول في جميع السنوات.

                  - الاحتفاظ بالطور الأول مع مراعاة سن القبول الطبيعية فيه على شرط إحداث سنة إعدادية قابلة للإعادة إلى جانبه، يقبل فيها الطلبة المتقدمون في السن من الذين حفظوا القرآن، كله أو بعضه، ولهم إلمام أولي بالعلوم الإسلامية والعربية حيث يهيئون للالتحاق بالثانوي، وتطوى مرحلة الطور الأول بالنسبة لهم في سنة واحدة.

                  - مجموع هـذه المؤسسات من معاهد وكليات هـو الذي يتركب منه هـيكل جامعة القرويين.

                  - الاعتراف بمعادلة شهادات "القرويين" من عالمية فما دونها، لغيرها من شهادات الكليات والمدارس العصرية التي في درجتها، وتخويل حاملها نفس الحقوق التي تخولها الشهادات الأخرى، والاعتراف كذلك للعلماء بجميع الحقوق التي لغيرهم ممن يزاولون عملا في الوظيفة العمومية بما في ذلك حق التقاعد من تاريخ اشتغالهم.

                  ** لعل محاولات القضاء على رسالة القرويين والمعاهد التي تعمل على نشر العلوم الإسلامية واللغة العربية تلقى بعض الضوء على مخططات أعداء الثقافة الإسلامية وعملاء التنصير، فهل هـناك أمثلة يمكن الاستفادة منها في هـذا المجال؟ [ ص: 114 ]

                  إنها صفحات من الماضي، ولكن لا بد من إعادة قراءتها لتوضيح حجم الكيد ومقدار الضربات التي وجهت "للقرويين" وأيضا لبيان دور ومواقف أبناء وأساتذة "القرويين" من ذلك وما قاموا به من محاولات لإنقاذ "القرويين" بخاصة والتعليم الإسلامي بعامة، منالهوة التي كان يستدرج لدفنه فيها.

                  ومن المواقف المشهودة أيضا لأبناء القرويين موقفهم مما سمي "الاحتفال بمرور أحد عشر قرنا على تأسيس القرويين" وكان ذلك قبل خمس وعشرين سنة تقريبا.. وأذكر يومها أني كتبت مقالا بعنوان (هل هـو احتفال بوأد القرويين أم ازدهارها؟) وكانت نتيجته أن تأجل الاحتفال سبعة أشهر عن الموعد الذي حدد له.. ثم جدد الاحتفال ودعي له الناس من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، فقرر أبناء "القرويين" مقاطعته، وبلغ الأمر محمدا الخامس رحمه الله فأرسل إلينا واجتمع بنا، فأوضحنا له وجهة نظرنا في الأمر، وبعد أخذ ورد تم الاتفاق على أن نحضر خطاب الملك فقط ثم ننسحب -وقد فعلنا- ففشل الاحتفال، وهكذا استمرت معركتنا دفاعا عن "القرويين" ورسالتها إلى ما بعد وفاة محمد الخامس رحمه الله الذي كان يتدخل دائما لحل المشكلات التي تنشأ بيننا ووزراء التعليم.. وعندما تولى الملك الحسن الثاني مقاليد الأمور، عرضنا عليه المشكلة وقدمنا له نسخة من مشروع رابطة علماء المغرب لتنظيم القرويين وتطوير التعليم الإسلامي فاستجاب، وأصدر مرسوما ملكيا بإعادة الحياة للقرويين.. وتم تقسيمها إلى ثلاث كليات:

                  1- كلية الشريعة في فاس .

                  2- كلية الدراسات العربية في مراكش .

                  3- كلية أصول الدين في تطوان .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية