الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  بين الفقهاء والعلماء المتخصصين

                  ** أريد أن أستوضح هـذه النقطة: فكرة العالم المتخصص وفكرة الفقيه، لا شك بأن الفقيه يمكن اعتباره العين السحرية التي تحكم على كل ما ينتج من الناحية الثقافية أو الفكرية من قبل المتخصصين، فإلى أي مدى يستطيع الفقيه الذي لا دراية له كاملة بالعلم ومساره، أو بالتخصص ودقائقه أن يكون عينا سحرية والحكم على الشيء فرع عن تصوره؟!

                  من جانب آخر: المتخصص الذي لم يتحقق بالتصور الإسلامي الكامل، ولم تكن عنده المؤهلات والأطر التي يجب أن ينتج من خلالها، أو المناخ الذي يمكن أن ينتج من خلاله ليأتي إنتاجه متسقا مع نظرة الإسلام للحياة والكون.. ألا يخشى أن يقع نوع من الصراع والصدام، بأن يأتي بعض الفقهاء الذين لا دراية لهم بالمسارات العلمية، فيتوهمون أن بعض الإنتاج العلمي يمكن أن يتعارض مع الشريعة -وقد تنقلب الظنيات إلى قطعيات بالنسبة لقضايا العلم، وفي تاريخنا شيء من هـذا- وأن يتحول المتخصص إلى فقيه يفتي أيضا؟ فهنا نخشى أن يتكرر في الحياة الإسلامية ما وقع في العصور الوسطى لدى النصارى (العلماء قالوا بكروية الأرض فقال رجال الدين: هـذا كفر..) تدخلوا بغير اختصاصهم، وأفتوا دون علم فضلوا وأضلوا، ووقعت الكارثة، وعوقت المسيرة العلمية فترة من الزمن.. فكيف يمكن أن تحل هـذه المشكلة؟

                  ويمكن أن آتي بمثال هـنا: في المصارف الإسلامية هـناك هـيئة تسمى بهيئة الرقابة الشرعية، بعيدة نوعا ما عن المعرفة بالمعاملات المصرفية المتخصصة، وهناك هـيئة الرقابة القانونية المتحققة بالأمور الاقتصادية المعاصرة، والبعيدة عن قضايا المعرفة المتخصصة بالشريعة الإسلامية، هـنا [ ص: 159 ] قد تقع ازدواجية تسبب معاناة للمصارف الإسلامية، هـذه المعاناة نشأت من عدم وجود المتخصص بالأعمال المصرفية والفقه الشرعي في الوقت نفسه.

                  هذه نقطة مهمة، وتخوفك في محله إن لم يحسم في الذهن، وأنا أرحب بهذا النوع من الصراع- صراع الأفكار- بين الفئتين، لأنه في نهاية المطاف سيؤدي إلى أن يكون الإسلام هـو الرابح، عندما يحدث الصراع الفكري بينهما، فئة العلماء وفئة الفقهاء، فئة الفقهاء غير المتخصصين في قضايا معينة، وفئة المتخصصين في قضايا معينة.. هـذا الصراع بحد ذاته مكسب كبير، يجب أن نرحب به ولا نخشاه، ففي الإسلام رحابة صدر، وسعة أفق، ومجال للحوار والمناقشة يثري الفكر الإسلامي بصورة فعالة وجادة.

                  صحيح أنه قد لا توجد نوعية من العلماء الفقهاء قادرة على مجاراة المتخصصين في فهم كثير من خبايا الأمور، وبالتالي قد يصدر نوع من ردود الفعل العنيفة، أو من التحفظ، أو المقاومة من جانبهم تجاه الآخرين المتخصصين، والقضية هـنا ببساطة لا تحتاج إلى وقفات فلسفية، فالعلوم نوعان: علوم بحتة، لا دين لها -محايدة- ولا تخضع لمعيار أو هـوية معينة، لها متخصصون، ولا تحتاج إلى فتوى أو إلى تشريع، فلنزاحم الغرب فيها، وعندها ننهي هـذه القضية، ونقفل ذلك الفصل، ونلتفت للقضايا التي هـي أهم بكثير، وتنخر في جسم الأمة المسلمة بالغزو الفكري المركز من خلال المفاهيم الغربية في العلوم الاجتماعية.. كثير من طلابنا وأبنائنا الدارسين في بعض جامعاتنا وجامعات الغرب معرضون لها، ولم يبرز -للأسف- حتى الآن البديل القوي الذي يمكن أن يزاحمهم، لا في علم الاجتماع، ولا في علم التاريخ، ولا في علم الجغرافية، ولا في علم النفس، ولا في العلوم الاقتصادية وما يرتبط بها من تفريعات.

                  إذن: الخطر الأساسي أو نقطة التخوف هـي في العلوم الإنسانية، في العلوم الاجتماعية، ورغم ذلك فللآن لم يبرز ذلك الجهد المنظم المقنن القادر على أخذ زمام المبادرة في هـذا المجال، وطرح حلول إسلامية لكثير من القضايا الاجتماعية التي يعيشها مجتمع المسلمين.. لا نزال ندور في حلقه مفرغة، لا نزال أسرع استجابة للمفهوم الغربي وللثقافة الغربية، أو للمفاهيم الغربية بالنسبة للعلوم الاجتماعية. [ ص: 160 ]

                  إن أي محاولة تبذل في هـذا السبيل لكسر طوق التبعية شيء يجب أن نرحب به، حتى ولو كان خطأ في البداية، مشكلتنا أننا نخشى أن نبدأ حتى لا نخطئ، وإذا بدأنا نتحفظ ونتخوف، ويمكن أن نقدم مثالا على ذلك: الجهد الذي بذل في الاقتصاد الإسلامي.. هـناك مراكز أبحاث، فيها شباب لا يمكن أن يشك في عقيدته، ولا في دينه، ولا في قدرته، ولا في علمه في مجال تخصصه، في جميع أنحاء العالم الإسلامي.. عندما تجمع هـؤلاء الشباب حول مائدة، وتقول لهم: تعالوا، تناقشوا وتحاوروا في القضايا التي تبحثون فيها، ستجد حينذاك أن هـناك كثيرا من التعاريف هـم مختلفون عليها، فهم لم يستطيعوا أن يوحدوا التعاريف فيما بينهم، وأولى الأوليات أن يجتمعوا ويوحدوا هـذه التعاريف.. عندما نتكلم عن الفائدة، ماذا نقصد منها؟ أهي بمفهومها الغربي؟ أو بمفهومنا نحن؟ ما معنى الربا؟ ما هـي أنواعه؟

                  يجب أن يكون هـناك نوع من التعاريف المحددة الراسخة التي تضيق شقة الخلاف حتى بين المتخصصين أنفسهم، وهذه هـي الخطوة الأساسية التي يجب أن تحدث، ونتمنى أن يعقد لقاء تتبناه جهة ما من الجهات المهتمة بقضايا الإسلام والمسلمين، وقضايا الأمة، تجمع فيه مجموعة من الباحثين في مجال الاقتصاد الإسلامي، وتجعل مادة النقاش أمامهم: توحيد التعاريف والمصطلحات في أبحاثهم فقط، وستعجب عندما تجد أن كثيرا من هـذه الأمور مختلط، وكثيرا من المفاهيم غير موحد، واحد في الشرق، وثان في الغرب.. هـذه القضية يجب أن تحسم.

                  وقضية أخرى: مدى استيعاب عالم الدين للمفاهيم الاقتصادية المعاصرة.. لا أكون مغاليا إذا قلت: إن جامعاتنا ومعاهدنا ومراكز تدريبنا لما تستطع حتى الآن -ونحن على مشارف القرن الحادي والعشرين الميلادي- أن تخرج لنا نوعية من العلماء والفقهاء الذين يقرءون تعابير عصرهم ومفاهيمه.. من هـنا نستطيع أن نصدر حكما بالفشل الذريع على كل هـذه الجامعات والمعاهد والمراكز.

                  آن لنا ألا نعزل العالم أو الفقيه عن بعض المفاهيم المعاصرة، وليكن فهما أوليا لغير المتخصص، ولا نتوقع منه أن يكون متعمقا وإلا أصبح رجل اقتصاد وعالم اجتماع.. هـناك فجوة موجودة، وستظل، لكنني متفائل بأنه لن يكون هـناك نوع من الصدام الفكري المميت الذي يشل الحركة، علينا أن نتمسك بمبدأ التخصص، عالم الدين [ ص: 161 ] أو الفقيه له دور محدد، ويجب ألا نشكك فيه بحجة أنه غير قادر على استيعاب بعض المفاهيم، فإن كان غير قادر فهذا ليس خطأه، ولكنه خطؤنا نحن، خطأ جامعاتنا ومعاهدنا.

                  ** هـنا قد نعاني من مشكلة أيضا، وهي من الحالات المرضية الموجودة في مجتمعنا، حيث نجد أن بعض من يعنون لهم بالفقهاء، أو برجال العلم الديني أو الإسلامي تصل ببعضهم الأمور إلى التدخل في قضايا العلم وإطلاق الأحكام بما لا يحسنون، وقد نجد العكس أيضا.

                  هؤلاء جميعا يجب أن يوقفوا، وأن يعرفوا أن دورهم غير ذلك.. يجب أن نحدد لكل منهم دوره، ونقول له: قف، العالم الآن أصبح عالم متخصص، ويجب أن تعرف دورك ومهمتك، دورك أن تكون العين السحرية التي تنظر في الإنتاج وتحكم عليه من منطلقات إسلامية، لا تتوقع من باحث الاقتصاد المسلم أن يكون قادرا على فهم كل التعاريف والمصطلحات، وكل القضايا الإسلامية تجاه الاقتصاد، هـذا هـو دورك أنت.

                  أما التخوف من ألا يكون المتخصص على دراية، أو ألا يتوفر لديه الحد الأدنى من المعرفة بأمور دينه وعقيدته.. فأعتقد أننا نتكلم عن نوعية من المتخصصين المسلمين غير الملتزمين، وهؤلاء لا تهمهم القضية، الإنسان الذي تهمه القضية هـو الإنسان الملتزم..

                  ومما يطمئن أن كل الباحثين في ميدان الاقتصاد الإسلامي هـم -والحمد لله- من الشباب المسلم الملتزم، إذن لا يهمنا الآخرون، لأنهم سائرون في ركاب الغرب بشقيه، وموقفهم هـذا يتصل بقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) لذا يجب ألا نهتم كثيرا بأمور هـؤلاء، بل يجب أن ندعم شبابنا الملتزم الذي يهوى ويتمنى أن يقدم لأمته المسلمة نتاج فكر جديد ينقذها من الضلال والضياع والتشرذم الذي تعيشه، ومن التيه في ظل أنظمة غربية أو شرقية تسيطر على مجاري الأمور والأحداث في المجتمع المسلم في مجالات العلوم الاجتماعية والاقتصادية. هـذه حقيقة يجب أن تنال العناية والاهتمام.. إذن لا تخوف من العالم الذي لا يفقه شيئا في العلوم الاجتماعية، والمتخصص الذي لا يفقه كثيرا في علوم الدين، إن كلا منهما مكمل للآخر، إذا التزم كل منهما بحدوده، وعرف تخصصه قام التعارف بينهما على أساس صحيح إسلامي يهدف إلى إنقاذ الأمة والأخذ بيدها. [ ص: 162 ]

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية