قوة لا تقهر ** وينقلنا الحوار مع الشيخ إلى مناقشة قضية العالم الإسلامي اليوم المتمثلة في الصحوة الإسلامية، مصدرها وأسبابها وأبعادها الحاضرة والمستقبلية، لكي نتعرف على رؤيته حولها.. يقول الشيخ كنون :
لقد جرب المسلمون كل المذاهب والنظم في نهضتهم الحديثة، اعتقادا منهم أو مجرد ظن بأنها أساس تقدم الغرب ورقيه، لكنها لم تغن عنهم شيئا، بل عرقلت نهضتهم وفرقت كلمتهم، وذلك ما جعل بعض مفكريهم يولون وجههم شطر الإسلام ويدعون إلى نبذ ما عداه.. والواقع أن في العالم الإسلامي اليوم مدا كبيرا وقوة شعبية هـائلة تقول بالرجوع إلى الإسلام من جديد، ولا أدل على ذلك من مقاومة التجربة الشيوعية في بعض بلدان العالم الإسلامي، وردود الفعل العنيفة التي ظهرت في بعضها الآخر ضد العلمانية وفصل الدولة عن الدين، وهذا الواقع إن دل على شيء فإنما يدل على أن الإسلام قوة لا تقهر، وأن كل المخططات التي وضعت للقضاء عليه -وبعضها مما وكل تنفيذه إلى أبنائه وبعضها الآخر مما تولى تنفيذه خصومه وأعداؤه، تارة بالقوة والتحكم وتارة بالسياسة واللين -قد ذهبت أدراج الرياح وظهر خبثها للعيان، فمن أين تنبع قوة الإسلام هـذه التي تحدت كل [ ص: 117 ] القوى المعادية لها من مادية ومعنوية؟ إن الإسلام دين الله الذي ارتضاه للبشر وأوحاه إلى أنبيائه ورسله من لدن إبراهيم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو بهذه الصفة وحدها حري أن يتغلب على كل معارضة ويقاوم التحديات من أي نوع، لأن قوته مستمدة من خالق القوى، الذي يعلم مصالح العباد ويدلهم على ما هـو خير لهم بالذات، فمهما فكر الإنسان وقدر، لا يدرك مصلحته الحقيقية ولا يهتدي إلى ما يحققها له كما هـداه الله، وفي هـذا المقام فإن الاستشهاد بالغيبيات لا يكفي، فلننظر في الجواب من وجه آخر..
لقد جاء الإسلام والعالم يدين بهذه الأديان المعروفة من سماوية في أصلها كاليهودية والنصرانية ، وأرضية وضعية كالزرداشتية والبوذية ، فدخل الإسلام موطنها ونازلها في معاقلها، ولم يكن له معها إلا جولة أو جولتان حتى ألقت إليه بالمقاليد، وانقلب أهل الشام ومصر ، وهما مهبطا الديانتين الأوليين -مسلمين طائعين عن طريق الاختيار والاقتناع، من غير ضغط ولا إكراه، وكذلك كان الحال بالنسبة لأهل فارس والهند ، فالأولى -وهي موطن الزرادشتية- أسلمت عن بكرة أبيها، والثانية -وهي معقل البوذية- أسلم فيها عشرات الملايين، وكل ذلك إنما كان بصدق الدعوة وحسن القدوة، إذ ليس من المعقول ولا المقبول أن تتحول شعوب بكاملها من عقيدتها الموروثة عن آبائها إلى عقيدة جديدة بالحرب والقتال.. ومؤدى هـذا الكلام هـو أن قوة الإسلام نابعة من هـذه الأصالة التي عرفها أهل الكتاب السابقون قبل غيرهم، ولم يسعهم إلا أن يقروا بها ويخضعوا لها.. ولقد عبر النبي صلى الله عليه وسلم عن هـذا المعنى تعبيرا واضح الدلالة حين رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبيده صفحة من التوراة يقرؤها، فأنكر عليه، وقال: ( ألم آتكم بها بيضاء نقية؟ والله لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي ) على أن أكمل ما تتمثل فيه ريادة الإسلام هـو سبقه إلى سن التشريعات التي بقيت الإنسانية تتعثر في خطوها نحوها قرونا عديدة، برغم العلم والفلسفة، فلم تهتد إلى بعضها إلا مؤخرا وفي القرن العشرين الذي يسمونه عصر النور، وشد ما كانت دهشة المفكرين والمشرعين والفلاسفة الاجتماعيين حين وجدوا أنفسهم وجها لوجه أمام الإسلام السباقإلى الحلول الإيجابية لمشاكل المجتمع الإنساني.
ومن ناحية أخرى.. إذا نظرنا إلى ما هـو واقع اليوم في العالم الإسلامي، فإنه من الجائز أن نقول بأن هـناك صحوة إسلامية شعبية -ولكن بتحفظ- فالشعب لم يبق لنا وحدنا، لقد تقاسمته المذاهب والأفكار والتيارات والنظم المستوردة المخالفة للإسلام، وصار التعاون [ ص: 118 ] والتآزر فيما بين المسلمين ضعيفا، كما أن بعض الحكام -حتى أولئك الذين يظهرون نزعة إسلامية- لا يساعدون الحركة الإسلامية، بل يعتبرونها خصما لهم، تماما كما يعتبرون الحركات الأخرى المناوئة لهم، مع علمهم بأن هـذه الحركات تريد أن تقتلعهم من أماكنهم وتقذف بهم إلى الشارع، في حين أن الحركة الإسلامية لا تهدف إلى ذلك، لا سيما ذات النهج منها.