القرآن والسلطان
** هـناك قضية تتصل بما بدأنا الحديث عنه.. وهي أن بعضهم يرى أن [ ص: 128 ] المسلمين أغنياء جدا في الفقه التشريعي، وفقراء جدا في الفقه السياسي بمعناه الإداري والدستوري، وما إلى ذلك.. وهذا قد يدعو إلى شيء من التخبط في الرؤية السياسية؛ لأنها لم تزل مبادئ عامة لم تترجم - تاريخيا - إلى فقه وبرامج تشكل خصوبة في التصور عند الفرد المسلم، يمكن أن يتعامل مع الحياة من خلاله.. فهل كان هـذا ثمرة لانفصال السلطان عن القرآن في التاريخ الإسلامي؟ علما بأن الكثير من الآيات التي وردت تحض على النظر والاعتبار، والدعوة إلى الشورى هـي أقرب في طبيعتها إلى الفقه الاجتماعي والسياسي منها إلى الفقه التشريعي، وعلما بأن النمو لا يزال مستمرا في الفقه التشريعي، بينما نعاني من ضمور في الفقه السياسي.. كيف يمكن أن يتخلص المسلمون من بعض هـذه المعاناة؟
لا بد من الاعتراف بأن فقه العبادات - وجوانب من فقه المعاملات - اتسع عندنا اتساعا أكثر من اللازم، وأن الاستبحار التشريعي في أمور الطهارة والصلاة والحج والزكاة وما إلى ذلك كان أكثر مما يطيقه الفرد المسلم أو المجتمع المسلم، وقليل من هـذا كان يكفي الناس، كما أنه عدة أسماء لحقيقة واحدة ليس بلازم أن يعرفها الجميع؛ لكن لا شك أن في الأمة الإسلامية تخلفا في سياسة الحكم وسياسة المال، فأما في سياسة المال فمعروف أن فتنة أمتنا المال كما جاء في الحديث: ( فتنة أمتي المال ) ، والفتنة تجيء من مصادر الكسب ومن طرق الإنفاق، فلا مصادر الكسب وضعنا لها مصافي تحجب الحرام وتتيح مرور الحلال، ولا طرق الإنفاق وضعنا عليها رقابات قانونية تمنع التبذير الجنوني وتمنع السفه في إراقة المال في غير موضعه، وربما سبقتنا الآن أمم كثيرة في هـذا، حيث وضعت للمال سياسات دقيقة في إنفاقه وفي كسبه، تظهر في الموازنات العامة التي تضعها الدول، فالدول تفرض على الحكومات ألا يؤخذ من الشعب قرش واحد إلا بقانون أو إلا بتشريع واضح يرى معه أن الدولة محتاجة، ولا ينفق شيء إلا بالدقة نفسها التي تتبع في الكسب، وإعلان الحرب كذلك لا يترك لنزوات فرد يخاصم أو يسالم كيف يشاء، وإنما الأمة التي تدفع من دمها ثمن الحروب وتضحيات القتال هـي التي تبت في مثل هـذه الأمور.
ولا بد في الحقيقة من أن تكون هـناك أجهزة متخصصة في أمور فنية وإدارية لمعرفة موقع الأمة الإسلامية من الأمم الأخرى، وما يعود عليها بالكسب، وما يعود عليها بالخسارة، وأن [ ص: 129 ] تكون هـناك قوانين تحكم العلاقات وترسم المعاهدات التي تكون بيننا وبين الآخرين.
ومع أن الفقه الإسلامي يمثل على الأقل 50% من المكتبة الإسلامية، ومع أن هـذا الفقه استبحر عندنا بحيث إنه لا توجد حضارة عالمية استبحر فيها الفقه كما استبحر في حضارتنا، مع هـذا فإننا في هـذه الناحية مصابون بضمور كما قلتم - في بعض المعاملات عندنا - على سبيل المثال نحو (25) كبيرة من الكبائر لم توضع لها عقوبات، ونحن لم نضع عقوبات للتعامل بالربا أو للغصب أو للفرار من الزحف أو لأكل مال اليتيم، أو للغش، أو لما يقع من مخالفات كثيرة.. فهل الحدود التي وضعها الله تغني عن تشريعات لا بد منها في الميدان الاجتماعي؟ وهل تترك التعزيرات هـكذا دون ضوابط، ودون رصدها بقوانين محكمة؟
الشيء الثاني: وجدنا أن الفقه الإسلامي - حتى في ميدان الأسرة - قد احتبس في حدود المذاهب الأربعة حتى جاء ابن تيمية واستطاع أن يصنع عملا هـائلا عندما رفض طلاق البدعة ودخل بهذا مدخلا معجبا وكريما في المحافظة على الأسرة الإسلامية، وإن كان بعضهم يرفض كلامه في هـذا الموضوع، لكن انفتاح باب الاجتهاد أمام الرجل جعله يضع ضوابط للأسرة الإسلامية، هـذا شيء حسن.. قوانين العمل والعمال لا تزال صفرا عندنا، ونستوردها الآن من الخارج في إصابات العمل وفي حقوق العامل، وهذا لا يجوز.. القوانين الإدارية إلى الآن لا تزال أيضا مجلوبة.
** في الحقيقة كأنما المطلوب تحديد الأسباب - أسباب الضمور في هـذا الجانب والنمو في الجانب الآخر - هـل هـو الانسحاب من المجتمع؟.. هـل هـو انفصال السلطان عن القرآن؟ مع أن الإنسان يلمح بأن الآية التي استدل بها الفقهاء على حجية القياس - وهي قوله تعالى: ( فاعتبروا يا أولي الأبصار ) [الحشر:2] في سورة الحشر، بعد أن تكلم عن الحال التي كان عليها بنو النضير ، وكيف أخذهم الله بسبب واقع اجتماعي معين - وأن كل من يصيبه هـذا الواقع سينتهي إلى النهاية نفسها - هـي أقرب للفقه الاجتماعي منها إلى الفقه التشريعي، أنا ألمح بأن هـذا لون من الفقه للسنن الاجتماعية - عمليا - صرف إلى الفقه التشريعي وبقيت القضية الاجتماعية أو الفقه الاجتماعي أو السنن المتعلقة بقيام الأمم وسقوط الأمم وقضايا المال بقيت قضايا ضامرة. [ ص: 130 ]
من الناحية النظرية استطاع أئمتنا من قديم أن يضعوا قواعد تشريعية مثالية في هـذه النواحي؛ فمالك وبعض المذاهب الأخرى اعتمدوا مبدأ المصلحة المرسلة ، والحنفية اعتمدوا مبدأ الاستحسان ، الحنابلة لهم فقه مرن جدا في ميدان المعاملات يكاد يكون أكثر سماحة واتساعا من الفقه الحنفي؛ لأنهم يرون أن العقود ابتداء في الأصل مباحة، أما غيرهم فيرى أنها محظورة، ولهم في هـذا مجال واسع- لكن..
** لكن، ألا ترون معي أن هـذا يبقى في إطار الفقه التشريعي؟
نعم.. قلت: إن الذي جعل هـذا الفقه لا يأخذ امتداده العملي، بحيث تمتد المبادئ وتتوزع على شبكة تشريعات تشمل المجتمع كله.. هـو الخصام الذي وقع بين الحكم والعلم الديني؛ فإن الأئمة الأربعة تقريبا كانت بينهم وبين الحكام جفوة.. أبو حنيفة قتل في السجن - على الأشهر أو على الأغلب - ومالك ضرب؛ لأنه أفتى فتوى أغضبت الحاكم في عهده، وابن حنبل ضرب ضربا مبرحا وكاد يموت في سجنه، لولا أن الله لطف به، والشافعي قبض عليه وامتنع عن القضاء؛ لأنه وجد أن الأمور تسير سيرا سيئا.. فهذه الناحية التشريعية قد جاء ضمورها من الخلاف..
** الضمور سببه الخلاف بين القيادة الفكرية والقيادة السياسية إذا صح التعبير.
نعم.. هـذا هـو الذي أريد أن أقوله.. لذلك يجب أن نعقد صلحا بين الاتجاهين، بين الاتجاه الثقافي والاتجاه السياسي.
** هـل يمكن أن نعتبر أن التخلف والارتكاس يمكن أن يكرس ويستمر طالما أن هـذا الافتراق حاصل بين القيادة الفكرية والقيادة السياسية؟
سيبقى التخلف حتما.. وهذا أشبه بالانفصال الشبكي الذي يفقد المرء البصر، وفي اعتقادي أن شيئا من هـذا - أيضا - وقع بين المفكرين أنفسهم.