الشورى.. في عصر تبرج الفلسفات
** نعود إلى نقطة انفصال القيادة الفكرية والتربوية عن القيادة التشريعية.. هـذا الانفصال الذي أحدث الشروخ والأخاديد في المجتمع المسلم.. الحقيقة أصبح كثير من الناس يحس بهذه القضية، ولا بد أن توضع أوليات للمعالجة.. أنا لا أعتقد بأن السبب كله يعود إلى القيادة السياسية، ولا السبب كله يعود إلى القيادة التشريعية أو الفكرية.. وإنما لكل من القيادتين نصيبه من الخطأ، فكيف ترون سبيل المعالجة؟
لا أستطيع أن أعود باللائمة على نفر معينين، فنحن جميعا من علماء وحكام ومن إدرايين ومربين، ومن فقهاء ومن مشرعين وقادة وعسكريين، نحن جميعا نحمل أوزار الضعف الذي ألم بالعالم الإسلامي كله، ومن الخير أن نتعارف على خطة سواء يمكن بها أن ننقذ أمتنا وننقذ تراثنا ونؤدي رسالتنا التي لا بد أن نؤديها حتى نلقى ربنا بوجه أبيض، وإلا فإن التبعات ثقيلة علينا، ونحن لا نبدأ من فراغ، فمن إكرام الله لهذه الأمة أن كتابها لا يزال قائما، وأن سنة نبينا صلى الله عليه وسلم لا تزال واضحة المعالم، وأن الفقه في أصوله وأهدافه الكبرى لا يزال يعطينا القدرة على الرؤية والانطلاق.. كل ما هـنالك أن يمنع القاصرون وأصحاب الغرض من الكلام في دين الله أو العمل له؛ لأنهم يسيئون من حيث يريدون الإحسان، إنني أرفض في مثل هـذا العصر الذي دللت فيه الشعوب وتبرجت في الفلسفات التي تعرض نفسها على الخلق، أرفض أن يجيء إنسان فيقول: الحاكم في الإسلام يتصرف بدون مجالس شورى تشير عليه، وله أن ينفرد برأيه متخطيا كل رأي يعرض عليه، هـذا كلام لا يمكن أن يقال، وصاحب الرسالة المعصوم صلى الله عليه وسلم ما زعمه لنفسه، فكيف يزعم للآخرين؟! القول بأن الشورى لا تلزم أحدا كلام باطل، ولا أدري من أين جاء!
** لعل فكرة عدم إلزامية الشورى وفكرة المستبد العادل.. كلها كانت فلسفة لواقع معين لتبرير الاستبداد السياسي من فقهاء السلطة.
كلمة "مستبد عادل" تساوي كلمة "عالم جاهل".. تساوي كلمة "تقي [ ص: 133 ] فاجر".. هـذا جمع بين الأضداد.
** أعني أنه قد يشيع في المجتمع الإسلامي فترة من الفترات مصطلح مستبد عادل، أو أنه قد يشيع في المجتمع الإسلامي أن الشورى غير ملزمة، كلون من التبرير أو التسويغ أو إعطاء الفتوى للاستبداد السياسي، أو إلباس ثوب إسلامي للاستبداد السياسي.
نعم، وهذا لا يجوز.. فالذي رأيناه في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أنه التزم بالشورى، فإنها من مبادئ الإسلام، وقبل أن تقوم للمسلمين دولة قيل لهم: مجتمعكم هـذا الذي لما يتحول بعد إلى دولة يجب أن يقوم أمره على الشورى: ( .. وأمرهم شورى بينهم.. ) [الشورى: 38]، وكان ذلك في العهد المكي، وعندما قام المجتمع على دولة بعد أن انتقل إلى المدينة، فإنه قيل للرسول صلى الله عليه وسلم بعد هـزيمة أحد ( وشاورهم في الأمر ) [آل عمران: 159].
وكان أول اختبار للشورى في غزوة الأحزاب عندما كاد النبي صلى الله عليه وسلم يمضي معاهدة بينه وبين القبائل الوثنية المحدقة بالمدينة والتي توشك على اقتحامها،لأنه رأى حرج الأنصار وكلب العدو عليهم وتتابع البذل منهم خشي هـذا.. واقترح، فلما عرض ذلك على زعيمي الأوس والخزرج - سعد بن عبادة وسعد بن معاذ - رفضا، وفي ما أحفظه من روايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهما: إذا اتفقتما على شيء فلا أخالفكما فيه .. فهذا أصل الشورى ومعروف بداهة أن الشورى لا صلة لها بالنصوص، الشورى حيث لا نص، والذين يقولون: إن الشورى تغير أحكام الإسلام، لا يفهمون معنى الشورى.. يوم نقول: الدولة دينها الرسمي الإسلامي، فمعنى هـذا أن نصوص الإسلام على العين والرأس ولا كلام فيها، أما الشورى فحيث لا نص.. وقد سمعت بعض الشبهات أوردها الذين يقولون: إن الشورى لا تلزم.. منها موقف النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية، والظاهر أن الموقف في غزوة الحديبية لم يكن للشورى دخل فيه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحس بأن رب العالمين قد تدخل في الأمر، فقال: ( ما خلأت القصواء وليس لها بخلق، حبسها حابس الفيل ) فهم أن الله لا يريد حربا الآن، فنفذ أمر الله -وهو خبير بالوحي- وعندما سئل قال: أنا عبد الله وهو لن يخذلني [ ص: 134 ] فكان لا بد أن ينفذ أمر الله، وطالما أمر الله فلا شورى لأحد.
الشيء الثاني، وهو عجيب، قولهم -في قضايا محاربة المرتدين- إن أبا بكر استبد برأيه.. وهذا كلام باطل، لأن معنى الشورى أن يقول الحاكم ما عنده، وأن يسوق الأدلة عليه، وأن يعترض من يعترض، ثم يذكر أدلته، ثم تستقر الأمور على ما يراه المجتمعون، فهل رأى المجتمعون رأيا غير رأي أبي بكر؟ هـذا غير صحيح، عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الذي اعترض، قال: " فما هـو إلا "كذا"حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر " معنى هـذا أن المعارضة اختفت.. كذلك اختلفوا في تخميس الغنائم، وكانت المصالح المرسلة كما قيل -المصلحة المطلقة- أنها لا تخمس، كما يفهم بعضهم من النص.. فرأى عمر أن التخميس الذي جاء به النص كان في أمور محدودة، أما في امتلاك أراضي البلاد المفتوحة وتوزيعها على المقاتلين فلا، واختلفوا شهرا وفكروا، فكانت الأغلبية مع عدم التخميس، ورأوا الذي رآه عمر، فمعنى الشورى أن الآراء تقال وكل يقول ما عنده ويدافع عنه وهو يعرضه، حتى إذا أخذت الآراء وعرف الاتجاه إلى أين فمع الأغلبية نسير.. هـذا هـو الذي نقوله.. أما القول الآن بأنه لأي إنسان أن يأخذ الأمة شرقا وهي تريد أن تذهب غربا فهذا لا يمكن أن يقال.