نقل التكنولوجيا
** يرى بعض المسلمين أن العالم الإسلامي لا يستطيع -مهما حاول- التحقق بالمنجزات العلمية والتكنولوجية التي وصل إليها الغرب، وسبيل العالم الإسلامي إلى العطاء والقيادة الحضارية اليوم إنما يكون بتقديم نماذج سلوكية يفتقر إليها التطور الغربي الذي يسير نحو التأزم في علومه الإنسانية والتجريبية، ويستدلون لذلك بأن المسلمين لم يتفوقوا على الحضارة الرومانية والفارسية بالتطور العلمي وإنما بتقديم النموذج السلوكي.. بينما يرى آخرون أن بإمكان العالم الإسلامي أن يتفوق علميا وتكنولوجيا، وسبيله إلى ذلك إنما يكون باستعادة العقول المهاجرة، حيث إن بعضها أو معظمها من النوابغ، وإعادة توطينها والإفادة منها، فما هـو تصوركم لهذه القضية؟
لا أؤمن بقضية نقل التكنولوجيا كما تتداول كعبارة يقصد منها مفاهيم مختلفة، وأبرز هـذه المفاهيم أن تنقل التكنولوجيا بمعنى أن تستورد الأجهزة والمعدات، وأن تقيم المصانع لتستقدم فيما بعد جيوشا جرارة لكي تديرها وتعمل على صيانتها، أنا أؤمن ببديل آخر، هـو استنبات التكنولوجيا، بمعنى أن ندرب الطفل منذ البدء وننشئه على القضايا العلمية الأساسية الحيوية التي تحبب إليه العمل اليدوي، وتنمي فيه القدرات، فطفلنا لا يختلف عن نظيره الغربي، كلاهما بريء، وكلاهما وعاء تسكب فيه ما تريد، ويمكن أن تنشئه النشأة التي تريد، كلاهما من خلق الله تعالى، وكلاهما قادر، صحيح أن كلا منهما يعيش في بيئة تختلف عن بيئة الآخر، لكن كل واحد منهما في نهاية المطاف إنسان بشر، خلقه الله [ ص: 168 ] تعالى وزوده بذكاء وعقل وقدرات، عليك أن تنميها وتوجهها.. لذلك أرفض أن ننظر إلى التكنولوجيا نظرة حرفية، بل يجب أن ننظر إليها على أنها غرسة، أو شجيرة تعتمد على التربة التي نريد أن نزرعها فيها، إن كانت تربتك صالحة فستأتي بغرسة صالحة ارتفاعها كذا، فتغرسها في تلك التربة فتنمو، إذن أنا أريد استنباتا وليس نقلا حرفيا.. هـذه واحدة.
وأخرى، قضية الأنموذج السلوكي، أعتقد أن الإنسانية اليوم بأمس الحاجة إلى بروز أنموذج سلوكي منضبط، قادر على هـدايتها وإرشادها والأخذ بيدها في مجال السلوك والمعاملات، وأنا أؤمن أن الأنموذج الإسلامي في هـذا هـو الأنموذج الأوحد، وعلينا ألا نسقطه، وأن نهتم به، لكنني أعتقد أيضا أن الغرب بشقيه -الرأسمالي والشيوعي- الذي يقود الطفرة التكنولوجية الموجودة، وانفجار المعرفة الرهيب الذي حدث في أجواء الفضاء، وأعماق البحار، وعلى وجه الأرض، هـذا الغرب بهذه القدرات الرهيبة التي يسيطر بواسطتها على مخلوقات الله، يعوزه الأنموذج السلوكي وإلا سقطت حضارته، لعلك تعلم أنه يوجد الآن في جامعات الغرب، وجامعات الولايات المتحدة الأمريكية خاصة أقسام متخصصة تقدم علما جديدا يربط أو يبين العلاقة بين التكنولوجية والأخلاق والقيم، ذلك أن بعض عقلائهم الذين يعملون دائما على تصحيح مسيرة الحضارة، اكتشفوا أن هـناك تآكلا من الداخل، هـذا الوحش الكاسر الذي بنوه ويسمونه التكنولوجيا بدأ يسيطر على سلوكهم وقيمهم ومبادئهم وحياتهم عموما، وأصبح العقل البشري سجين أو أسير هـذا الوحش.. هـذا الوحش الذي يجب أن يسلسل ويقيد، يجب أن يكون الإنسان قائده، لا أن يقود هـو الإنسان كما هـو حادث في المجتمعات الغربية، فبدءوا يقدمون هـذا النوع من التخصص والدراسة بهدف: ترشيد مسار الحضارة التكنولوجية.
إذن هـناك مجاهدة وحرص من الغرب على ألا تسيطر التطورات التقنية على حياتهم وتنسيهم أنهم بشر وأن لهم عادات وتقاليد وقيما يجب أن يحافظ عليها.
نأتي إلى المسلمين، هـل نكتفي بالسلوك ونبرز الأنموذج؟ أم أننا نواكب السلوك والنموذج بمزاحمة الغرب بذلك؟ أعتقد أن من يقول: إننا لا نستطيع أن نستنبت التكنولوجيا، وإننا لا نستطيع أن نطرق أبواب القرن الحادي والعشرين ونزاحم الغرب فيه هـو إنسان يائس، لا مكان له في موكب الحياة المعاصرة حقيقة، وأعتقد بما قاله الشاعر: ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل. [ ص: 169 ]
الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه المشهور المعروف الذي اعتبر الأمل ركيزة من ركائز الحياة.. عندما أخذ عصاه، وخط على الأرض خطوطا، ثم وضع خارجها نقطة، وبين لأصحابه رضوان الله عليهم أن الإنسان سجين هـذا الإطار، والنقطة الخارجية هـي الأمل، فأنا أعتقد أن الأمل يجب أن يبقى رائدنا، والرجاء في الله سبحانه وتعالى يقودنا إلى هـذا..
هذه القضية -الاستنبات- تأخذ وقتا، نعم، تحتاج إلى مجاهدة، نعم، سنتعرض أثناء ذلك إلى تضحيات ومعاناة شديدة، نعم، سنتعرض إلى ذلك كله بالتأكيد.. لكن من قال: إننا سنبدأ من الصفر؟ لا أعتقد ذلك، هـناك محاولات في العالم الإسلامي ( باكستان - السعودية - أقطار أخرى) للأخذ بزمام المبادرة، نحن في جامعة الخليج -إذا جاز لي أن أقحم جامعة الخليج- نحاول أن نجعل منها أنموذجا نطل من خلاله على القرن الحادي والعشرين في مجال التقنية والعلوم التطبيقية، هـذا ما نسعى إليه، علينا إذن أن نعيد حساباتنا وترتيب أولياتنا، وأن ننفض عن أنفسنا حياة الترف والرفاهية التي غرقنا فيها، أو غرق بعضنا فيها لدرجة أننا نسينا دورنا في هـذه الحياة، وأصبحت اهتماماتنا جزئية، يجب أن نعيد ترتيب أمورنا بصورة تجعلنا قادرين على المزاحمة والمواكبة.. إذا استطعنا أن نعيد القدرات التي حبانا الله تعالى بها إلى مكانها الطبيعي، واستخدمناها الاستخدام الصحيح -بكل تأكيد سنستطيع- هـناك شباب يعيش حاليا في الغرب وهو قادر ولديه إمكانات، وأنا أعتقد أن من السهولة بمكان إقناعه بالعودة إلى بلده.