باب الحكم بين أهل الكتاب
قال الله تعالى : فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ظاهر ذلك يقتضي معنيين :
أحدهما : تخليتهم وأحكامهم من غير اعتراض عليهم ، والثاني : التخيير بين الحكم والإعراض إذا ارتفعوا إلينا . وقد اختلف السلف في بقاء هذا الحكم ، فقال قائلون منهم : " إذا ارتفعوا إلينا فإن شاء الحاكم حكم بينهم وإن شاء أعرض عنهم وردهم إلى دينهم " . وقال آخرون : " التخيير منسوخ ، فمتى ارتفعوا إلينا حكمنا بينهم من غير تخيير " . فممن أخذ بالتخيير عند مجيئهم إلينا الحسن والشعبي رواية ؛ وروي عن وإبراهيم : " خلوا بين الحسن أهل الكتاب وبين حاكمهم ، وإذا ارتفعوا إليكم فأقيموا عليهم ما في كتابكم " .
وروى عن سفيان بن حسين الحكم عن عن مجاهد قال : " آيتان نسختا من سورة المائدة : آية القلائد ، وقوله تعالى : ابن عباس فاحكم بينهم أو أعرض عنهم فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخيرا إن شاء حكم بينهم أو أعرض عنهم فردهم إلى أحكامهم ، حتى نزلت : وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما أنزل الله في كتابه " .
وروى عثمان بن عطاء الخراساني عن في قوله : ابن عباس فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم قال : نسخها قوله : وأن احكم بينهم بما أنزل الله وروى عن سعيد بن جبير الحكم عن : مجاهد فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم قال : نسختها : وأن احكم بينهم بما أنزل الله وروى عن سفيان عن السدي مثله قال عكرمة : فذكر هؤلاء أن قوله : أبو بكر وأن احكم بينهم بما أنزل الله ناسخ للتخيير المذكور في قوله : فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ومعلوم أن ذلك لا يقال من طريق الرأي لأن العلم بتواريخ نزول الآي لا يدرك من طريق الرأي [ ص: 88 ] والاجتهاد ، وإنما طريقه التوقيف ولم يقل من أثبت التخيير إن آية التخيير نزلت بعد قوله : وأن احكم بينهم بما أنزل الله وإن التخيير نسخه .
وإنما حكي عنهم مذاهبهم في التخيير من غير ذكر النسخ ، فثبت نسخ التخيير بقوله : وأن احكم بينهم بما أنزل الله كرواية من ذكر نسخ التخيير . ويدل على نسخ التخيير قوله : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون الآيات ، ومن أعرض عنهم فلم يحكم في تلك الحادثة التي اختصموا فيها بما أنزل الله .
ولا نعلم أحدا قال إن في هذه الآيات : ومن لم يحكم بما أنزل الله منسوخا إلا ما يروى عن رواه مجاهد منصور عن الحكم عن أن قوله : مجاهد ومن لم يحكم بما أنزل الله نسخها ما قبلها : فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وقد روى عن سفيان بن حسين الحكم عن أن قوله : مجاهد فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم منسوخ بقوله : وأن احكم بينهم بما أنزل الله ويحتمل أن يكون قوله تعالى : فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم قبل أن تعقد لهم الذمة يدخلوا تحت أحكام الإسلام بالجزية فلما أمر الله بأخذ الجزية منهم وجرت عليهم أحكام الإسلام أمر بالحكم بينهم بما أنزل الله فيكون حكم الآيتين جميعا ثابتا : التخيير في أهل العهد الذين لا ذمة لهم ولم يجر عليهم أحكام المسلمين كأهل الحرب إذا هادناهم وإيجاب أهل الذمة الذين يجري عليهم أحكام المسلمين . الحكم بما أنزل الله في
وقد روي عن ما يدل على ذلك ؛ روى ابن عباس عن محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة أن الآية التي في المائدة قول الله تعالى : ابن عباس فاحكم بينهم أو أعرض عنهم إنما نزلت في الدية بين بني قريظة وبين بني النضير ، وذلك أن بني النضير كان لهم شرف يدون دية كاملة ، وأن بني قريظة يودون نصف الدية ؛ فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله ذلك فيهم ، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك فجعل الدية سواء . ومعلوم أن بني قريظة والنضير لم تكن لهم ذمة قط ، وقد أجلى النبي صلى الله عليه وسلم بني النضير وقتل بني قريظة ، ولو كان لهم ذمة لما أجلاهم ولا قتلهم ، وإنما كان بينه وبينهم عهد وهدنة فنقضوها . فأخبر أن آية التخيير نزلت فيهم ، فجائز أن يكون حكمها باقيا في أهل الحرب من أهل العهد ، وحكم الآية الأخرى في وجوب الحكم بينهم بما أنزل الله تعالى ثابتا في ابن عباس أهل الذمة فلا يكون فيها نسخ . وهذا تأويل سائغ لولا ما روي عن السلف من نسخ التخيير بالآية الأخرى .
وروي عن رواية أخرى وعن ابن عباس الحسن ومجاهد : أنها نزلت في شأن [ ص: 89 ] الرجم حين تحاكموا إليه وهؤلاء أيضا لم يكونوا أهل ذمة ، وإنما تحاكموا إليه طلبا للرخصة وزوال الرجم ، فصار النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت مدراسهم ووقفهم على آية الرجم وعلى كذبهم وتحريفهم كتاب الله ، ثم رجم اليهوديين وقال : والزهري . اللهم إني أول من أحيا سنة أماتوها
وقال أصحابنا أهل الذمة محمولون في البيوع والمواريث وسائر العقود على أحكام الإسلام كالمسلمين ، إلا في بيع الخمر والخنزير ، فإن ذلك جائز فيما بينهم لأنهم مقرون على أن تكون مالا لهم ، ولو لم يجز مبايعتهم وتصرفهم فيها والانتفاع بها لخرجت من أن تكون مالا لهم ولما وجب على مستهلكها عليهم ضمان " . ولا نعلم خلافا بين الفقهاء أن عليه قيمتها . وقد روي أنهم كانوا يأخذون الخمر من فيمن استهلك لذمي خمرا أهل الذمة في العشور ، فكتب إليهم " أن ولوهم بيعها وخذوا العشر من أثمانها " فهذان مال لهم يجوز تصرفهم فيهما ، وما عدا ذلك فهو محمول على أحكامنا لقوله : عمر وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كتب إلى أهل نجران : إما أن تذروا الربا وإما أن تأذنوا بحرب من الله ورسوله فجعلهم النبي صلى الله عليه وسلم في حظر الربا ومنعهم منه كالمسلمين ، قال الله تعالى : وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل فأخبر أنهم منهيون عن الربا وأكل المال بالباطل ، كما قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم فسوى بينهم وبين المسلمين في المنع من الربا والعقود الفاسدة المحظورة ، وقال تعالى : سماعون للكذب أكالون للسحت فهذا الذي ذكرناه مذهب أصحابنا في عقود المعاملات والتجارات وحدود أهل الذمة والمسلمون فيها سواء ، إلا أنهم لا يرجمون لأنهم غير محصنين .
وقال : " الحاكم مخير إذا اختصموا إليه بين أن يحكم بينهم بحكم الإسلام أو يعرض عنهم فلا يحكم بينهم " وكذلك قوله في العقود والمواريث وغيرها . واختلف أصحابنا في مناكحتهم فيما بينهم ، فقال مالك هم مقرون على أحكامهم لا يعترض عليهم فيها إلا أن يرضوا بأحكامنا ، فإن رضي بها الزوجان حملا على أحكامنا ، وإن أبى أحدهما لم يعترض عليهم ، فإذا تراضيا جميعا حملهما على أحكام الإسلام إلا في النكاح بغير شهود والنكاح في العدة فإنه لا يفرق بينهم ، وكذلك إن أسلموا " . وقال أبو حنيفة محمد : " إذا رضي أحدهما حملا جميعا على أحكامنا وإن أبى الآخر ، إلا في النكاح بغير شهود خاصة " . وقال : " يحملون على أحكامنا وإن أبوا إلا في [ ص: 90 ] النكاح بغير شهود نجيزه إذا تراضوا بها " . فأما أبو يوسف فإنه يذهب في إقرارهم على مناكحاتهم ، إلى أنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من أبو حنيفة مجوس هجر مع علمه بأنهم يستحلون ومع علمه بذلك لم يأمر بالتفرقة بينهما ؛ وكذلك نكاح ذوات المحرم اليهود والنصارى يستحلون كثيرا من عقود المناكحات المحرمة ولم يأمر بالتفرقة بينهم حين عقد لهم الذمة من أهل نجران ووادي القرى وسائر اليهود والنصارى الذين دخلوا في الذمة ورضوا بإعطاء الجزية .
وفي ذلك دليل على أنه أقرهم على مناكحاتهم كما أقرهم على مذاهبهم الفاسدة واعتقاداتهم التي هي ضلال وباطل ، ألا ترى أنه لما علم استحلالهم للربا كتب إلى أهل نجران : إما أن تذروا الربا ، وإما أن تأذنوا بحرب من الله ورسوله . فلم يقرهم عليه حين علم تبايعهم به . وأيضا قد علمنا أن لما فتح عمر بن الخطاب السواد أقر أهلها عليها وكانوا مجوسا ، ولم يثبت أنه أمر بالتفريق بين ذوي المحارم منهم مع علمه بمناكحاتهم .
وكذلك سائر الأمة بعده جروا على منهاجه في ترك الاعتراض عليهم ؛ وفي ذلك دليل على صحة ما ذكرنا .
فإن قيل فقد روي عن أنه كتب إلى عمر سعد يأمره بالتفريق بين ذوي المحارم منهم وأن يمنعهم من المذهب فيه . قيل له : لو كان هذا ثابتا لورد النقل به متواترا كوروده في سيرته فيهم في أخذ الجزية ووضع الخراج وسائر ما عاملهم به ، فلما لم يرد ذلك من جهة التواتر علمنا أنه غير ثابت . ويحتمل أن يكون كتابه إلى سعد بذلك إنما كان فيمن رضي منهم بأحكامنا ؛ وكذلك نقول إذا تراضوا بأحكامنا . وأيضا قد بينا أن قوله : وأن احكم بينهم بما أنزل الله ناسخ للتخيير المذكور في قوله : فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم والذي ثبت نسخه من ذلك هو التخيير ، فأما شرط المجيء منهم فلم تقم الدلالة على نسخه ، فينبغي أن يكون حكم الشرط باقيا والتخيير منسوخا ، فيكون تقديره مع الآية الأخرى : (فإن جاءوك فاحكم بما أنزل) وإنما قال : " إنهم يحملون على أحكامنا إذا رضوا بها إلا في النكاح بغير شهود والنكاح في العدة " من قبل أنه لما ثبت أنه ليس لنا اعتراض عليهم قبل التراضي منهم بأحكامنا ، فمتى تراضوا بها وارتفعوا إلينا فإنما الواجب إجراؤهم على أحكامنا في المستقبل ، ومعلوم أن العدة لا تمنع بقاء النكاح في المستقبل وإنما تمنع الابتداء لأن امرأة تحت زوج لو طرأت عليها عدة من وطء بشبهة لم يمنع ما وجب من العدة بقاء الحكم ، فثبت أن العدة إنما تمنع ابتداء العقد ولا تمنع البقاء ؛ فمن أجل ذلك لم يفرق بينهما .
[ ص: 91 ] ومن جهة أخرى أن العدة حق الله تعالى وهم غير مؤاخذين بحقوق الله تعالى في أحكام الشريعة ، فإذا لم تكن عندهم عدة واجبة لم تكن عليها عدة ، فجاز نكاحها الثاني . وليس كذلك ؛ إذ لا يختلف فيها حكم الابتداء والبقاء في باب بطلانه ، وأما نكاح ذوات المحارم فإن الذي هو شرط في صحة العقد وجود الشهود في حال العقد ، ولا يحتاج في بقائه إلى استصحاب الشهود ؛ لأن الشهود لو ارتدوا بعد ذلك أو ماتوا لم يؤثر ذلك في العقد ؛ فإذا كان إنما يحتاج إلى الشهود للابتداء لا للبقاء لم يجز أن يمنع البقاء في المستقبل لأجل عدم الشهود . ومن جهة أخرى أن النكاح بغير شهود مختلف فيه بين الفقهاء ، فمنهم من يجيزه ، والاجتهاد سائغ في جوازه ، ولا يعترض على المسلمين إذا عقدوه ما لم يختصموا فيه ، فغير جائز فسخه إذا عقدوه في حال الكفر ؛ إذ كان ذلك سائغا جائزا في وقت وقوعه ، لو أمضاه حاكم ما بين المسلمين جاز ولم يجز بعد ذلك فسخه وإنما اعتبر النكاح بغير شهود تراضيهما جميعا بأحكامنا من قبل قول الله تعالى : أبو حنيفة فإن جاءوك فاحكم بينهم فشرط مجيئهم ، فلم يجز الحكم على أحدهما بمجيء الآخر .
فإن قال قائل : إذا رضي أحدهما بأحكامنا فقد لزمه حكم الإسلام فيصير بمنزلته لو أسلم فيحمل الآخر معه على حكم الإسلام .
قيل له : هذا غلط ؛ لأن رضاه بأحكامنا لا يلزمه ذلك إيجابا ، ألا ترى أنه لو رجع عن الرضا قبل الحكم عليه لم يلزمه إياه وبعد الإسلام يمكنه الرضا بأحكامنا ؟ وأيضا إذا لم يجز أن يعترض عليهم إلا بعد الرضا بحكمنا فمن لم يرض به مبقى على حكمه لا يجوز إلزامه حكما لأجل رضا غيره . وذهب محمد إلى أن رضا أحدهما يلزم الآخر حكم الإسلام كما لو أسلم . وذهب إلى ظاهر قوله تعالى : أبو يوسف وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم قوله تعالى : وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله يعني : الله أعلم فيما تحاكموا إليك فيه ؛ فقيل : إنهم تحاكموا إليه في حد الزانيين ، وقيل : في الدية بين بني قريظة وبني النضير ؛ فأخبر تعالى أنهم لم يتحاكموا إليه تصديقا منهم بنبوته ، وإنما طلبوا الرخصة ؛ ولذلك قال : وما أولئك بالمؤمنين يعني هم غير مؤمنين بحكمك أنه من عند الله مع جحدهم بنبوتك وعدولهم عما يعتقدونه حكما لله مما في التوراة . ويحتمل أنهم حين طلبوا غير حكم الله ولم يرضوا به فهم كافرون غير مؤمنين . وقوله تعالى : وعندهم التوراة فيها حكم الله يدل على أن حكم التوراة فيما اختصموا فيه لم يكن منسوخا ، وأنه [ ص: 92 ] صار بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم شريعة لنا لم ينسخ ؛ لأنه لو نسخ لم يطلق عليه بعد النسخ أنه حكم الله ، كما لا يطلق أن حكم الله تحليل الخمر أو تحريم السبت .
وهذا يدل على أن شرائع من قبلنا من الأنبياء لازمة لنا ما لم تنسخ ، وأنها حكم الله بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم . وقد روي عن في قوله تعالى : الحسن فيها حكم الله بالرجم ؛ لأنهم اختصموا إليه في حد الزنا . وقال : فيها حكم الله بالقود لأنهم اختصموا في ذلك . وجائز أن يكونوا تحاكموا إليه فيهما جميعا من الرجم والقود . قوله تعالى : قتادة إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا روي عن الحسن وقتادة وعكرمة والزهري ، أن النبي صلى الله عليه وسلم مراد بقوله : والسدي يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا قال : وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم على الزانيين منهم بالرجم وقال : أبو بكر وكان ذلك في حكم التوراة ؛ وحكم فيه بتساوي الديات وكان ذلك أيضا حكم التوراة ؛ وهذا يدل على أنه حكم عليهم بحكم التوراة لا بحكم مبتدأ شريعة . وقوله تعالى : اللهم إني أول من أحيا سنة أماتوها وكانوا عليه شهداء قال : " شهداء على حكم النبي صلى الله عليه وسلم أنه في التوراة " . وقال غيره : " شهداء على ذلك الحكم أنه من عند الله " . ابن عباس
وقال عز وجل : فلا تخشوا الناس واخشون قال فيه : لا تخشوهم في كتمان ما أنزلت " . وحدثنا السدي قال : حدثنا عبد الباقي بن قانع الحارث بن أبي أسامة : حدثنا : حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام عن عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن سلمة حميد عن قال : " إن الله تعالى أخذ على الحكام ثلاثا : أن لا يتبعوا الهوى ، وأن يخشوه ولا يخشوا الناس ، وأن لا يشتروا بآياته ثمنا قليلا " . ثم قال : الحسن يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى الآية ، وقال : إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا إلى قوله : فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون فتضمنت هذه الآية معان : منها الإخبار بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم على اليهود بحكم التوراة .
ومنها : أن كان باقيا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن مبعث النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب نسخه ؛ ودل ذلك على أن ذلك الحكم كان ثابتا لم ينسخ بشريعة الرسول صلى الله عليه وسلم . ومنها إيجاب الحكم بما أنزل الله تعالى وأن لا يعدل عنه ولا يحابي فيه مخافة الناس . ومنها : تحريم أخذ الرشا في الأحكام ، وهو قوله تعالى : حكم التوراة ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا [ ص: 93 ] وقوله تعالى : ومن لم يحكم بما أنزل الله قال : " هو في الجاحد لحكم الله " . وقيل : " هي في ابن عباس اليهود خاصة " . وقال ابن مسعود والحسن : " هي عامة " يعني فيمن لم يحكم بما أنزل الله وحكم بغيره مخبرا أنه حكم الله تعالى ، ومن فعل هذا فقد كفر فمن جعلها في قوم خاصة وهم وإبراهيم اليهود ، لم يجعل " من " بمعنى الشرط ، وجعلها بمعنى الذي لم يحكم بما أنزل الله ، والمراد قوم بأعيانهم . وقال ، وذكر قصة رجم البراء بن عازب اليهود فأنزل الله تعالى يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر الآيات ، إلى قوله : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون قال : " في اليهود خاصة " وقوله : فأولئك هم الظالمون و فأولئك هم الفاسقون " في الكفار كلهم " . وقال : الحسن ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون نزلت في اليهود وهي علينا واجبة . وقال أبو مجلز : " نزلت في اليهود " . وقال أبو جعفر : نزلت في اليهود ثم جرت فينا " .
وروى عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت قال : قيل أبي البختري : لحذيفة ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون نزلت في بني إسرائيل ؟ قال : " نعم ، الإخوة لكم بنو إسرائيل ، إن كانت لكم كل حلوة ولهم كل مرة ، ولتسلكن طريقهم قد الشراك " . قال : " نزلت في إبراهيم النخعي بني إسرائيل ورضي لكم بها " .
وروى عن الثوري زكريا عن قال الأولى للمسلمين والثانية الشعبي لليهود والثالثة للنصارى " . وقال : " ليس بكفر ينقل عن الملة " وروى طاوس عن طاوس قال : " ليس الكفر الذي يذهبون إليه في قوله : ابن عباس ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون "
وقال عن ابن جريج كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق " . وقال عطاء علي بن حسين رضي الله عنهما : " ليس بكفر شرك ولا ظلم شرك ولا فسق شرك " . قال : قوله تعالى : أبو بكر ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون لا يخلو من أن يكون مراده كفر الشرك والجحود أو كفر النعمة من غير جحود ؛ فإن كان المراد أو الحكم بغيره مع الإخبار بأنه حكم الله ، فهذا كفر يخرج عن الملة وفاعله مرتد إن كان قبل ذلك مسلما ؛ وعلى هذا تأوله من قال : " إنها نزلت في جحود حكم الله بني إسرائيل وجرت فينا " يعنون أن من جحد منا حكم الله أو حكم بغير حكم الله ثم قال إن هذا حكم الله ، فهو كافر كما كفرت بنو إسرائيل حين فعلوا ذلك ، وإن كان المراد به كفر النعمة فإن كفران النعمة قد يكون بترك الشكر عليها من غير جحود ، فلا يكون فاعله خارجا من الملة ؛ والأظهر هو المعنى الأول لإطلاقه اسم الكفر على من لم يحكم بما أنزل الله . [ ص: 94 ] وقد تأولت الخوارج هذه الآية على تكفير من ترك الحكم بما أنزل الله من غير جحود لها ، وأكفروا بذلك كل من عصى الله بكبيرة أو صغيرة ، فأداهم ذلك إلى الكفر والضلال بتكفيرهم الأنبياء بصغائر ذنوبهم .