الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب وقت وجوب الجزية قال الله تعالى : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله إلى قوله : حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ؛ فأوجب قتالهم ، وجعل إعطاء الجزية غاية لرفعه عنهم ؛ لأن { حتى } غاية ، هذا حقيقة اللفظ ، والمفهوم من ظاهره ، ألا ترى أن قوله : ولا تقربوهن حتى يطهرن قد حظر إباحة قربهن إلا بعد وجود طهرهن .

وكذلك المفهوم من قول القائل : { لا تعط زيدا شيئا حتى يدخل الدار } منع الإعطاء إلا بعد دخوله ، فثبت بذلك أن الآية موجبة لقتال أهل الكتاب مزيلة ذلك عنهم بإعطاء الجزية ، وهذا يدل على أن الجزية قد وجبت بعقد الذمة ، وكذلك كان يقول أبو الحسن الكرخي ؛ وذكر ابن سماعة عن أبي يوسف قال : { لا تؤخذ من الذمي الجزية حتى تدخل السنة ، ويمضي شهران منها بعض ما عليه بشهرين ، ونحو ذلك يعامل في الجزية ، بمنزلة الضريبة كلما كان يمضي شهران أو نحو ذلك أخذت منه } .

قال أبو بكر : يعني بالضريبة الأجرة في الإجارات ؛ قال أبو يوسف : { ولا يؤخذ ذلك منه حين تدخل السنة ، ولا يؤخذ ذلك منه حتى تتم السنة ، ولكن يعامل ذلك في سنته } . قال أبو بكر : ذكره للشهرين إنما هو توفية ، وهي واجبة بإقرارنا إياه على الذمة ، لما تضمنه ظاهر الآية . وذكر ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه قال في الذمي : { يؤخذ منه خراج رأسه في سنته ما دام فيها ، فإذا انقضت السنة لم يؤخذ منه } . وهذا يدل من قول أبي حنيفة على أنه رآها واجبة بعقد الذمة لهم ، وأن تأخيرنا بعض السنة إنما هو توفية للواجب وتوسعة .

ألا ترى أنه قال : { فإذا انقضت السنة لم تؤخذ منه } ؟ لأن دخول السنة الثانية يوجب جزية أخرى ، فإذا اجتمعتا سقطت إحداهما . وعن أبي يوسف ومحمد : { اجتماعهما لا يسقط إحداهما } وجه قول أبي حنيفة أن الجزية واجبة على وجه العقوبة لإقامتهم على الكفر مع [ ص: 295 ] كونهم من أهل القتال ، وحق الأخذ فيها إلى الإمام ، فأشبهت الحدود ، إذ كانت مستحقة في الأصل على وجه العقوبة ، وحق الأخذ إلى الإمام ، فلما كان اجتماع الحدود من جنس ، واحد يوجب الاقتصار على واحد منهما مثل أن يزني مرارا أو يسرق مرارا ثم يرفع إلى الإمام فلا يجب إلا حد واحد بجميع الأفعال ، كذلك حكم الجزية إذ كانت مستحقة على وجه العقوبة بل هي أخف أمرا ، وأضعف حالا من الحدود ؛ لأنه لا خلاف بين أصحابنا أن إسلامه يسقطها ، ولا تسقط الحدود بالإسلام .

فإن قيل : لما كان ذلك دينا ، وحقا في مال المسلمين لم يسقطه اجتماعه ، كالديون وخراج الأرضين . قيل له : خراج الأرضين ليس بصغار ولا عقوبة ، والدليل عليه أنه يؤخذ من المسلمين ، والجزية لا تؤخذ من مسلم . وقد روي نحو قول أبي حنيفة عن طاوس ، وروى ابن جريج عن سليمان الأحول عن طاوس قال : إذا تداركت صدقات فلا تؤخذ الأولى كالجزية .

وقد اختلف الفقهاء في الذمي إذا أسلم ، وقد وجبت عليه جزية هل يؤخذ بها ؟ فقال أصحابنا : { لا يؤخذ } ، وهو قول مالك وعبيد الله بن الحسن . وقال ابن شبرمة والشافعي : { إذا أسلم في بعض السنة أخذ منه بحساب ذلك } . والدليل على أن الإسلام يسقط ما وجب من الجزية قوله تعالى : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله إلى قوله : حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فانتظمت هذه الآية الدلالة من وجهين على صحة ما قلنا أحدهما : الأمر بأخذ الجزية ممن يجب قتاله لإقامته على الكفر إن لم يؤدها ، ومتى أسلم لم يجب قتاله فلا جزية عليه .

والوجه الثاني : قوله تعالى : عن يد وهم صاغرون فأمر بأخذها منهم على وجه الصغار والذلة ، وهذا المعنى معدوم بعد الإسلام إذ غير ممكن أخذها على هذا الوجه ، ومتى أخذناها على غير هذا الوجه لم تكن جزية ؛ لأن الجزية هي ما أخذ على وجه الصغار . وقد روى الثوري عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس على مسلم جزية فنفى صلى الله عليه وسلم أخذها من المسلم ، ولم يفرق بين ما وجب عليه في حال الكفر ، وبين ما لم يجب بعد الإسلام ، فوجب بظاهر ذلك إسقاط الجزية عنه بالإسلام . ويدل على سقوطها أن الجزية ، والجزاء واحد ، ومعناه جزاء الإقامة على الكفر ممن كان من أهل القتال ، فمتى أسلم سقط عنه بالإسلام المجازاة على الكفر ، إذ غير جائز عقاب التائب في حال المهلة ، وبقاء التكليف ؛ ولهذا الاعتبار أسقطها أصحابنا بالموت لفوات أخذها منه على وجه الصغار بعد موته فلا يكون ما يأخذه جزية ، وعلى هذا قالوا فيمن وجبت [ ص: 296 ] عليه زكاة ماله ، ومواشيه فمات : إنها تسقط ولا يأخذها الإمام منه ؛ لأن سبيل أخذها ، وموضوعها في الأصل سبيل العبادات يسقطها الموت ، وقالوا فيمن وجبت عليه نفقة امرأته بفرض القاضي فمات أو ماتت إنها تسقط ؛ لأن موضوعها عندهم موضوع الصلة إذ ليست بدلا عن شيء ، ومعنى الصلة لا يتأتى بعد الموت ، فأسقطوها لهذه العلة .

فإن قيل : الحدود واجبة على وجه العقوبة ، والتوبة لا تسقطها ، وكذلك لو أن ذميا أسلم ، وقد زنى أو سرق في حال كفره لم يكن إسلامه ، وتوبته مسقطين لحده ، وإن كان وجوب الحد في الأصل على وجه العقوبة ، والتائب لا يستحق العقاب على فعل قد صحت منه توبته . قيل له : أما الحد الذي كان واجبا على وجه العقوبة فقد سقط بالتوبة ، وما نوجبه بعدها ليس هو الحد المستحق على وجه العقوبة بل هو حد واجب على وجه المحنة بدلالة قامت لنا على وجوبه غير الدلالة الموجبة للحد الأول على وجه العقوبة ، فإن قامت دلالة على وجوب أخذ المال منه بعد إسلامه لا على وجه الجزية والعقوبة لم نأب إيجابه إلا أنه لا يكون جزية ؛ لأن اسم الجزية يتضمن كونها عقوبة ، وأنت فإنما تزعم أنه تؤخذ منه الجزية بعد إسلامه ، فإن اعترفت بأن المأخوذ منه غير جزية ، وأن الجزية التي كانت واجبة قد سقطت ، وإنما يجب مال آخر غير الجزية فإنما أنت رجل سمتنا إيجاب مال على مسلم من غير سبب يقتضي إيجابه ، وهذا لا نسلم لك إلا بدلالة . وقد روى المسعودي عن محمد بن عبد الله الثقفي : أن دهقانا أسلم فقام إلى علي رضي الله عنه فقال له علي : أما أنت فلا جزية عليك ، وأما أرضك فلنا ، وفي لفظ آخر : إن تحولت عنها فنحن أحق بها .

وروى معمر عن أيوب عن محمد قال أسلم رجل فأخذ بالخراج ، وقيل له : إنك متعوذ بالإسلام ، فقال : إن في الإسلام لمعاذا إن فعلت ، فقال عمر أجل والله إن في الإسلام معاذا إن فعل فرفع عنه الجزية . وروى حماد بن سلمة عن حميد قال : كتب عمر بن عبد العزيز : من شهد شهادتنا واستقبل قبلتنا ، واختتن فلا تأخذوا منه الجزية . فلم يفرق هؤلاء السلف بين الجزية الواجبة قبل الإسلام ، وبين حاله بعد الإسلام في نفيها عن كل مسلم . وقد كان آل مروان يأخذون الجزية ممن أسلم من أهل الذمة ، ويذهبون إلى أن الجزية بمنزلة ضريبة العبد فلا يسقط إسلام العبد ضريبته ، وهذا خلل في جنب ما ارتكبوه من المسلمين ، ونقض الإسلام عروة عروة إلى أن ولي عمر بن عبد العزيز فكتب إلى عامله بالعراق عبد الحميد بن عبد الرحمن : أما بعد فإن الله [ ص: 297 ] بعث محمدا صلى الله عليه وسلم داعيا ، ولم يبعثه جابيا ، فإذا أتاك كتابي هذا فارفع الجزية عمن أسلم من أهل الذمة فلما ولي هشام بن عبد الملك أعادها على المسلمين ، وكان أحد الأسباب التي لها استجاز القراء والفقهاء قتال عبد الملك بن مروان والحجاج لعنهما الله أخذهم الجزية من المسلمين ، ثم صار ذلك أيضا أحد أسباب زوال دولتهم ، وسلب نعمتهم . وروى عبد الله بن صالح قال : حدثنا حرملة بن عمران عن يزيد بن أبي حبيب قال : { أعظم ما أتت هذه الأمة بعد نبيها ثلاث خصال : قتلهم عثمان ، وإحراقهم الكعبة ، وأخذهم الجزية من المسلمين } .

وأما قولهم : { إن الجزية بمنزلة ضريبة العبد } فليس ببدع ، هذا من جهلهم ، إذ قد جهلوا من أمور الإسلام ما هو أعظم منه ؛ وذلك لأن أهل الذمة ليسوا عبيدا ، ولو كانوا عبيدا لما زال عنهم الرق بإسلامهم لأن إسلام العبد لا يزيل رقه ، وإنما الجزية عقوبة عوقبوا بها لإقامتهم على الكفر ، فمتى أسلموا لم يجز أن يعاقبوا بأخذها منهم ، ألا ترى أن العبد النصراني لا تؤخذ منه الجزية ؟ فلو كان أهل الذمة عبيدا لما أخذ منهم الجزية .

التالي السابق


الخدمات العلمية