الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : والغارمين ؛ قال أبو بكر : لم يختلفوا أنهم المدينون ، وفي هذا دليل على أنه إذا لم يملك فضلا عن دينه مائتي درهم فإنه فقير تحل له الصدقة ؛ ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم .

فحصل لنا بمجموع الآية والخبر أن الغارم فقير ، إذ كانت الصدقة لا تعطى إلا الفقراء بقضية قوله صلى الله عليه وسلم : وأردها في فقرائكم وهذا يدل أيضا على أنه إذا كان عليه دين يحيط بماله ، وله مال كثير أنه لا زكاة عليه ، إذ كان فقيرا يجوز له أخذ الصدقة . والآية خاصة في بعض الغارمين دون بعض ، وذلك لأنه لو كان له ألف درهم ، وعليه دين مائة درهم لم تحل له الزكاة ، ولم يجز معطيه إياها وإن كان غارما ، فثبت أن المراد الغريم الذي لا يفضل له عما في يده بعد قضاء دينه [ ص: 328 ] مقدار مائتي درهم أو ما يساويها ، فيجعل المقدار المستحق بالدين مما في يده كأنه في غير ملكه ، وما فضل عنه فهو فيه بمنزلة من لا دين عليه . وفي جعله الصدقة للغارمين دليل أيضا على أن الغارم إذا كان قويا مكتسبا فإن الصدقة تحل له ، إذ لم تفرق بين القادر على الكسب والعاجز عنه . وزعم الشافعي أن من تحمل حمالة عشرة آلاف درهم ، وله مائة ألف درهم أن الصدقة تحل له ، وإن كان عليه دين من غير الحمالة لم تحل له ، واحتج فيه بحديث قبيصة بن المخارق أنه تحمل حمالة ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فيها فقال : إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة رجل تحمل حمالة فيسأل فيها حتى يؤديها ، ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فيسأل حتى يصيب قواما من عيش ، ورجل أصابته فاقة وحاجة حتى يشهد ثلاثة من ذوي الحجى من قومه أن فلانا أصابته فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب سدادا من عيش ثم يمسك وما سوى ذلك فهو سحت .

ومعلوم أن الحمالة وسائر الديون سواء ؛ لأن الحمالة هي الكفالة والحميل هو الكفيل ، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أجاز له المسألة لأجل ما عليه من دين الكفالة ، وقد علم مساواة دين الكفالة وقد علم لسائر الديون ، فلا فرق بين شيء منها ، فينبغي أن تكون إباحة المسألة لأجل الحمالة محمولة على أنه لم يقدر على أدائها ، وكان الغرم الذي لزمه بإزاء ما في يده من ماله كما نقول في سائر الديون .

وروى إسرائيل عن جابر بن أبي جعفر في قوله تعالى : والغارمين قال : { المستدين في غير سرف حق على الإمام يقضي عنه } . وقال سعيد في قوله : والغارمين قال : { ناس عليهم دين من غير فساد ولا إتلاف ولا تبذير فجعل الله لهم فيها سهما } . وإنما ذكر هؤلاء في الدين أنه من غير سرف ولا إفساد ؛ لأنه إذا كان مبذرا مفسدا لم يؤمن إذا قضى دينه أن يستدين مثله فيصرفه في الفساد ، فكرهوا قضاء دين مثله لئلا يجعله ذريعة إلى السرف والفساد ، ولا خلاف في جواز قضاء دين مثله ودفع الزكاة إليه . وإنما ذكر هؤلاء عدم الفساد والتبذير فيما استدان على وجه الكراهة لا على وجه الإيجاب ، وروى عبيد الله بن موسى عن عثمان بن الأسود عن مجاهد في قوله : والغارمين قال : الغارم من ذهب السيل بماله ، أو أصابه حريق فأذهب ماله ، أو رجل له عيال لا يجد ما ينفق عليهم فيستدين .

قال أبو بكر : أما من ذهب ماله ، وليس عليه دين فلا يسمى غريما ؛ لأن الغرم هو اللزوم ، والمطالبة ، فمن لزمه الدين يسمى غريما ، ومن له الدين أيضا يسمى غريما ؛ لأن له اللزوم والمطالبة ، فأما من ذهب ماله فليس بغريم ، وإنما يسمى [ ص: 329 ] فقيرا أو مسكينا ، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ بالله من المأثم والمغرم ، فقيل له في ذلك ، فقال : إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف ، وإنما أراد إذا لزمه الدين ، ويجوز أن يكون مجاهد أراد من ذهب ماله ، وعليه دين ؛ لأنه إذا كان له مال ، وعليه دين أقل من ماله بمقدار مائتي درهم فليس هو من الغارمين المرادين بالآية .

وروى أبو يوسف عن عبد الله بن سميط عن أبي بكر الحنفي عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن المسألة لا تحل ، ولا تصلح إلا لأحد ثلاثة : لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو لذي دم موجع ، ومعلوم أن مراده بالغرم الدين

التالي السابق


الخدمات العلمية