الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
واختلف في فعل صلاتي فرض بتيمم واحد ، فقال : ( يصلي بتيممه ما شاء من الصلوات ما لم يحدث أو يجد الماء ) وهو مذهب الثوري والحسن بن صالح والليث بن سعد ، وهو مذهب إبراهيم وحماد والحسن . وقال مالك : ( لا يصلي صلاتي فرض بتيمم واحد ، ولا يصلي الفرض بتيمم النافلة ، ويصلي النافلة بعد الفرض بتيمم الفرض ) . وقال شريك بن عبد الله : ( يتيمم لكل صلاة فرض ويصلي الفرض والنفل وصلاة الجنازة بتيمم واحد ) .

والدليل على صحة قولنا قوله صلى الله عليه وسلم : التراب كافيك ولو إلى عشر حجج فإذا وجدت الماء فأمسسه جلدك وقال : التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء فجعل التراب طهورا ما لم يجد الماء ولم يوقته بفعل الصلاة . وقوله : ولو إلى عشر حجج على وجه التأكيد ، وليس المراد حقيقة الوقت ، وهو كقوله تعالى : إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ليس المراد به توقيت العدد المذكور ، وإنما المراد تأكيد نفي الغفران .

فإن قيل : لم يذكر الحدث وهو ينقض التيمم ، كذلك فعل الصلاة . قيل له : لأن بطلانه بالحدث كان معلوما عند المخاطبين فلم يحتج إلى ذكره ، وإنما ذكر ما لم يكن معلوما عندهم وأكده ببقائه إلى وجود الماء . وأيضا فإن المعنى المبيح للصلاة [ ص: 22 ] بالتيمم بديا كان عدم الماء وهو قائم بعد فعل الصلاة ، فينبغي أن يبقى تيممه ، ولا فرق فيه بين الابتداء والبقاء ، إذا كان المعنى فيهما واحدا وهو عدم الماء . وأيضا لما كان المسح على الخفين بدلا من الغسل كما أن التيمم بدل منه ، ثم جاز عند الجميع فعل صلاتين بمسح واحد ، جاز فعلهما أيضا بتيمم واحد .

وأيضا فلا يخلو المتيمم بعد فعل صلاته من أن تكون طهارته باقية أو زائلة ، فإن كانت زائلة فالواجب أن لا يصلي بها نفلا ؛ لأن النفل والفرض لا يختلفان في باب الطهارة ، وإن كانت باقية فجائز أن يصلي به فرضا آخر .

فإن قيل : قد خفف أمر النفل عن الفرض حتى جاز على الراحلة وإلى غير القبلة من غير ضرورة ، ولا يجوز فعل الفرض على هذا الوجه إلا لضرورة . قيل له : إنهما وإن اختلفا من هذا الوجه فلم يختلفا في أن شرط كل واحد منهما الطهارة ، فمن حيث جاز النفل بالتيمم الذي أدى به الفرض فواجب أن يجوز فعل فرض آخر به ، وإنما خفف أمر النفل في جواز فعله على الراحلة وإلى غير القبلة ؛ لأن فعل الفرض جائز على هذه الصفة في حال الضرورة ، وأما الطهارة فلا يختلف فيها حكم النفل والفرض في الأصول . واستدل من خالف في ذلك بقوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم إلى قوله : فلم تجدوا ماء فتيمموا وذلك يقتضي وجوب تجديد الطهارة على كل قائم إليها ، فوجب بحق العموم إيجاب تجديد التيمم لكل صلاة . قيل له : هذا غلط ؛ لأن قوله تعالى : إذا قمتم لا يقتضي التكرار في اللغة ، وقد بيناه فيما سلف ، ألا ترى أنه لم يقتضه في استعمال الماء ؟ فكذلك في التيمم . وعلى أنه أوجب التيمم في الحال التي لو كان الماء موجودا لكان مأمورا باستعماله ، فجعل التيمم بدلا منه ، فإنما يجب التيمم على الوجه الذي يجب فيه الأصل ، فأما حال أخرى غير هذه فليس في الآية ذكر إيجابه فيها ، فإذا كان الماء لو كان موجودا لم يلزمه تجديد الطهارة به للصلاة الثانية بعدما صلى بها الصلاة الأولى كان كذلك حكم التيمم .

فإن قيل : التيمم لا يرفع الحدث ، فليس هو بمنزلة الماء الذي يرفعه ؛ فلما كان الحدث باقيا مع التيمم وجب عليه تجديده . قيل له : ليس بقاء الحدث علة لإيجاب تكرار التيمم ؛ لأنه لو كان كذلك لوجب عليه تكراره أبدا قبل الدخول في الصلاة لهذه العلة ، فلما جاز أن يفعل الصلاة الأولى بالتيمم مع بقاء الحدث كانت الثانية مثلها إذا كان التيمم مفعولا لأجل ذلك الحدث بعينه الذي يريد إيجاب التيمم من أجله ، وقد وقع له مرة فلا يجب ثانية .

وأيضا فإن هذه العلة منتقضة بالمسح على الخفين لبقاء الحدث في [ ص: 23 ] الرجل مع المسح ويجوز فعل صلوات كثيرة به ، وينتقض أيضا بتجويز مخالفينا صلاة نافلة بعد الفرض لوجود الحدث .

فإن قيل : هلا جعلته كالمستحاضة عند خروج وقتها قيل له : قد ثبت عندنا أن رخصة المستحاضة مقدرة بوقت الصلاة ، ولا نعلم أحدا يجعل رخصة التيمم مقدرة بالوقت ، فهو قياس فاسد منتقض وعلى أن المستحاضة مخالفة للمتيمم من قبل أنه قد وجد منها حدث بعد وضوئها ، والوقت رخصة في فعل الصلاة مع الحدث ، فإذا خرج الوقت توضأت لحدث وجد بعد طهارتها ؛ ولم يوجد في التيمم حدث بعد تيممه ، فطهارته باقية .

التالي السابق


الخدمات العلمية