(فصل) قوله تعالى : ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل ينتظم الواحد والجماعة إذا قتلوا في إيجاب جزاء تام على كل واحد ؛ لأن ( من ) يتناول كل واحد على حياله في إيجاب جميع الجزاء عليه ؛ والدليل عليه قوله تعالى : ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة قد اقتضى ؛ وقال تعالى : إيجاب الرقبة على كل واحد من القاتلين إذا قتلوا نفسا واحدة ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا وعيد لكل واحد على حياله .
وقوله عز وجل : ومن يقتل مؤمنا متعمدا وعيد لكل واحد من القاتلين ؛ وهذا معلوم عند أهل اللغة لا يتدافعونه ، وإنما يجهله من لا حظ له فيها .
فإن قال قائل كانت على جميعهم دية [ ص: 143 ] واحدة ، والدية إنما دخلت في اللفظ حسب دخول الرقبة . : فلو قتل جماعة رجلا
قيل له : الذي يقتضيه حقيقة اللفظ وعمومه إيجاب ديات بعدد القاتلين ، وإنما اقتصر فيه على دية واحدة بالإجماع ، وإلا فالظاهر يقتضيه .
ألا ترى أنهما لو قتلاه عمدا كان كل واحد منهما كأنه قاتل له على حياله ويقتلان جميعا به ؟ ألا ترى أن كل واحد من القاتلين لا يرث وأنه لو كان بمنزلة من قتل بعضه لوجب أن لا يحرم الميراث مما قتله منه غيره ؟ فلما اتفق الجميع على أنهما جميعا لا يرثان وأن كل واحد منهما كأنه قاتل له وحده ، كذلك في إيجاب الكفارة ؛ إذ كانت النفس لا تتبعض ، وكذلك قاتلو الصيد كل واحد كأنه متلف للصيد على حياله ؛ فتجب على كل واحد كفارة تامة .
ويدل عليه أن الله تعالى سمى ذلك كفارة بقوله : أو كفارة طعام مساكين وجعل فيها صوما ، فأشبهت كفارة القتل .
فإن قال قائل : لما قال الله تعالى : فجزاء مثل ما قتل دل على أن الجزاء إنما هو جزاء واحد ولم يفرق بين أن يكونوا جماعة أو واحدا ، وأنت تقول يجب عليهم جزاءان وثلاثة وأكثر من ذلك . قيل له : هذا الجزاء ينصرف إلى كل واحد منهم ، ونحن لا نقول إنه يجب على كل واحد منهم جزاءان وثلاثة وإنما يجب عليه جزاء واحد ؛ والذي يدل على أنه منصرف إلى كل واحد قوله تعالى : فجزاء مثل ما قتل ولم يقل : ( قتلوا ) فدل على أنه أراد واحدا ؛ وقد بينا ذلك في كتاب ( شرح المناسك ) .
والخصم يحتج علينا بهذه الآية في القارن ، فإنه لا يجب عليه إلا جزاء واحد بظاهر الكتاب . والجواب عن هذا أنه محرم عندنا بإحرامين على ما سنذكره في موضعه ، وإذا صح لنا ذلك ثم أدخل النقص عليهما وجب أن يجبرهما بدمين .
قال : ولا خلاف بين الفقهاء أن أبو بكر بمكة ، وأن بلوغه الهدي لا يجزي إلا الكعبة أن يذبحه هناك في الحرم ، وأنه الحرم قبل أن يذبحه أن عليه هديا آخر غيره . وقال أصحابنا : إذا ذبحه في لو هلك بعد دخوله الحرم بعد بلوغ الكعبة فإن سرق بعد ذلك لم يكن عليه شيء ؛ لأن الصدقة تعينت فيه بالذبح ، فصار كمن فلا يلزمه شيء . قال لله علي أن أتصدق بهذا اللحم ، فسرق
واتفق الفقهاء أيضا على جواز الصوم في غير مكة ، واختلفوا في الطعام ، فقال أصحابنا : ( يجوز أن يتصدق به حيث شاء ) ؛ وقال : ( لا يجزي إلا أن يعطي مساكين الشافعي مكة ) . والدليل على جوازه حيث شاء قوله تعالى : أو كفارة طعام مساكين وذلك عموم في سائرهم ، وغير جائز تخصيصه بمكان إلا بدلالة ، ومن قصره على مساكين مكة فقد خص [ ص: 144 ] الآية بغير دليل . وأيضا ليس في الأصول صدقة مخصوصة بمكان لا يجوز أداؤها في غيره ، فلما كان ذلك صدقة وجب جوازها في سائر المواضع قياسا على نظائرها من الصدقات ؛ ولأن تخصيصه بمكان خارج عن الأصول ، وما خرج عن الأصول وظاهر الكتاب من الأقاويل فهو ساقط مرذول .
فإن قال قائل : فالهدي سبيله الصدقة وهو مخصوص بالحرم قيل له : ذبحه مخصوص بالحرم ، فأما الصدقة فحيث شاء ؛ وكذلك قال أصحابنا أنه الحرم ثم أخرجه فتصدق به في غيره أجزأه وأيضا لما اتفقوا على جواز الصيام في غير لو ذبحه في مكة وهو جزاء للصيد وليس بذبح ، وجب مثله في الطعام لهذه العلة .